منذ مقتل بائع السمك، محسن فكري، في الحسيمة نهاية أكتوبر من العام الماضي، في حادث أفجع المغاربة بعد طحنه داخل آلية شاحنة لجمع النفايات، الذي لقب وقتها ب"شهيد لقمة العيش"، توالت خلال العام الجاري فواجع دامية لا تقل فظاعة عن حادث "سماك الحسيمة"، ليحصي معها الرأي العام والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان لائحة "شهداء لقمة العيش" بالمغرب. آخر تلك الأحداث الأليمة، ما وقع نهاية الأسبوع المنصرم إثر مصرع شقيقين (30 سنة و22 سنة)، أو "شهيدي الفحم"، داخل منجم عشوائي عميق لاستخراج الفحم بمدينة جرادة، جنوبوجدة، ما أحدث حالة من الحداد والغليان والاحتقان غير مسبوقة بالمنطقة، تحولت إلى شبه حراك شعبي يرفض دفن الضحيتين إلى غاية الاستجابة لمطالب السكان الاجتماعية الداعية إلى تحسين الوضع التنموي الهش بالمنطقة ووضع حد للركود الاقتصادي والاجتماعي بها. كما يتذكر المغاربة ما وقع في نونبر المنصرم بجماعة "بولعلام" بإقليم الصويرة، إثر وفاة جماعية لنحو 15 امرأة وإصابة العشرات خلال عملية توزيع معونات غذائية؛ واقعة مؤلمة أثارت غضب المغاربة واعتبرتها الهيئات الحزبية والحقوقية الغاضبة حادثة "غير معزولة" جاءت في سياق ما يوصف ب"إحدى تجليات تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لفئات واسعة من المغاربة". ولم تكن واقعتا "شهيدات القفة"، أو "شهيدات الطحين"، بالصويرة ولا "شهيدي الفحم" بجرادة الوحيدتين، بل يتذكر المغاربة أيضا مصرع ثلاث مواطنات مغربيات في أواخر غشت الماضي بمعبر "تراخال" بباب سبتةالمحتلة بسبب تدافع ناجم عن ظروف المرور التي تفرضها شرطة الحدود تجاه المغاربة الساعين وراء سبل عيشهم بالتنقل بين سبتةالمحتلة ومدن الشمال. ولم تكن تلك الفواجع الدرامية والدامية لتمر دون أن يكون لعدسات هواتف المواطنين ووسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي دور في إثارتها بشكل سريع وإحداث غليان "افتراضي" تحول إلى تضامن وطني وشعبي، ودفع الحكومة تارة إلى التنديد، وتارة إلى الاكتفاء بالصمت و"التفرج"، وفي أحسن الأحوال إحداث لجان لتقصي الحقائق. وفي محاولة لفهم هذه "الظاهرة" من الناحية السوسيولوجية، يرى عبد الفتاح الفاتحي، كاتب باحث في علوم التربية، أن "تجذر تحدي الحاجة واستدامتها يدفع بالأفراد إلى ركوب الصعاب بشكل اضطراري مع كثير من المجازفة غير المحسوبة"، مشيرا إلى أنه حين تتعدد وتتنوع مثل هذه المغامرات "نكون بصدد ظاهرة اجتماعية أنتجتها ظروف مجتمعية واضحة". وقال الباحث في كلية علوم التربية بجامعة محمد الخامس بالرباط، في تصريح لهسبريس، إن ذلك قريب من ظاهرة "ركوب قوارب الموت" بالمغرب، مضيفا أنه أن تتعدد أشكال تلك الظواهر الخطرة مبرره أن "أسباب نضجها تكون فعالة لإيجاد حوافز تبدو موضوعية بالنسبة للأفراد في مجتمع تضيق حيلته وكفاءته وقدرته على مواجهة الكثير من المطالب الاجتماعية". ولفهم أكثر ل"شهداء لقمة العيش" من المغاربة من خلفية سوسيولوجية، شرح الكاتب المغربي بالقول إن "ضيق الأفق لدى الأفراد، ومنه الجماعة، يولد انعدام الثقة"، حيث "يتجسد واقع موحش يفقد المواطن الثقة في الفاعل السياسي ومؤسسات الدولة، مادامت قد عجزت عن إيجاد حلول عادلة"، وفي هذه الحالة، يردف الفاتحي: "تتشكل ظواهر الخروج عن النص كقوارب الموت، ومقاومة سماك الحسيمة للسلطة وتدافع نساء الصويرة ومغامرة ضحيتي مناجم جرادة المهجورة... حين ينبري مجتهدا في واقع مركب التعقيد متجاوزا صلاحيات السلطات المعنية". وبحسب الفاتحي، فإن البيئة الناجزة لهذه الظواهر "خليقة بمجتمع يعرف اختلالات بنيوية وهيكلية، لا يستطيع معها تدبير عوارضه"؛ إذ إن ذلك تتولد عنه اجتهادات الأفراد "لمواجهة تحدي الحاجيات الأساسية والحاجيات الاجتماعية، فيختل التوازن التنظيمي وتنهار علاقة السلطة بالأفراد والمجتمع. وهنا يقع المحظور على مختلف الجبهات؛ حيث يتحدى الأفراد السلطة باجتهادات فيما تغض الأخيرة الطرف باجتهادات تتجاوز صلاحيات السلطة لفقدان الثقة فيها".