بالقرب من التمثال الاصفر المطلي بالبرنز للزعيم الراحل بورقيبة وعلى بعد امتار قليلة من مقر محافظة المنستير في الساحل الشرقي لتونس نصبت اواخر الصيف الماضي خيمة صغيرة تناثرت حولها بعض الكراسي وثبت في المدخل عمودان حملا يافطة كبيرة كتبت فوقها العبارة الشهيرة ‘ارحل' بلون بارز جذاب. المشهد ذاته تكرر بنفس الشكل والاسلوب في اكثر من محافظة تونسية بعد ان اطلق ائتلاف من الاحزاب والجمعيات المعارضة انصهرت فيما عرف بجبهة الانقاذ حملة واسعة لطرد المحافظين ورموز السلطة داخل الجهات بالتزامن مع اعتصام ساحة ‘باردو' الذي طالب بالرحيل الفوري للحكومة والمجلس التأسيسي. اما التطورات التي حصلت فيما بعد فهي ان كلا الخصمين اللدودين توصلا في اعقاب مفاوضات شاقة وعسيرة الى صيغة تحفظ ماء وجه البعض وتحد من فورة غضب البعض الاخر والاهم من كل ذلك تسمح بفتح الطريق للتسريع في مناقشة فصول الدستورالجديد والمصادقة عليه وانتخاب اعضاء هيئة مستقلة للاشراف على الانتخابات تلتها فيما بعد استقالة حكومة الترويكا وتخليها لصالح فريق جديد غير متحزب. بحسب مضامين الاتفاق التي وردت في خطة الرباعي وخارطة الطريق فان الخطوة التي يفترض ان تتبع ذلك هي ما اطلق عليه في تونس ‘تحييد' السلطات الجهوية اي بصيغة ادق ابعاد المحافظين الذين عينتهم حكومة الترويكا المستقيلة وهو الامر الذي شرع في تطبيقه بالفعل بعد ان اصدر رئيس الحكومة قرارا بتعيين ثمانية عشر محافظا جديدا . المحافظ الاسلامي لمدينة المنستير كان واحدا من بين من وضعوا على قائمة المغادرين بعد ان قضى ما يقرب العامين على رأس محافظة عرفت بارتباطها العاطفي الشديد بالزعيم الراحل بورقيبة الذي ولد وتوفي فيها وحولها منتصف السبعينات من مدينة صغيرة الى محافظة تجذب الاستثمارات والسياح. ولم يكن بالسهل او العادي ان يدخل منطقة توصف دوما بكونها بيتا لبورقيبة فالصورة النمطية التي رسخت في اذهان الكثيرين هي ان الاسلاميين ظلوا رغم عودتهم الى النشاط السياسي العلني بعد فرار بن علي اعداء متربصين بمنجزات الحداثة ومكاسبها التي تحققت على يدي سلفه الزعيم الراحل وساعين بقوة الى تقويضها ودمارها. الصد الذي لقيه المحافظ لم يكن في البداية من السكان المحليين بل جاء من اغلب الموظفين العاملين في مقر المحافظة عندما وقعوا منذ اليوم الاول على عريضة تدعو لعزله ثم نظموا احتجاجات امام المقر قصد دفعه للانسحاب. والمفارقة التي حصلت منذ ايام اثناء حفل تسليم المهام الى المحافظ الجديد هي ان نفس اولئك الموظفين الذين رفضوا المحافظ الاسلامي منذ البداية اي قبل قدومه كانوا الاكثر تأثرا وحزنا لمغادرته بفعل انتهاء تكليفه. يقودنا ذلك الى استنتاج بسيط وبديهي وهو ان التجربة تبقى دوما قاعدة مفيدة ومطلوبة لا في تطبيقات العلوم الطبيعية فحسب بل حتى ايضا في فهم وتقييم الاداء السياسي والحكم له او عليه. التجارب القليلة للاسلاميين في الحكم في دولنا العربية خصوصا في ادارة الشأن العام داخل المناطق والجهات محدودة وهي في المجمل اما محظورة اي غير مسموح لها بالتحقق كما ظل الحال طوال عهدي بورقيبة وبن علي او معطلة ومتوقفة ثم محظورة مثلما هي الصورة الان في مصر. اما المدة الزمنية القصيرة التي سمح فيها لهؤلاء بالوصول الى تلك المواقع فهي لا تسمح بشكل عام بمنحهم شهادات التفوق والامتياز كما انها ايضا لا تبرر تسرع الكثيرين الى وصمهم بالفشل الذريع والمؤبد. ومن المؤكد ان عدم منح الاخرين الحق في التجربة والتعامل بالمنطق المضاد لروح العصر والذي يبدو انه يلقى هوى كبيرا هذه الايام في اكثر من بلد عربي اي منطق الحظر الشامل لكل المخالفين واتهامهم اما بشكل مباشر بالارهاب او غير مباشر بتقديم الدعم والاسناد له هو واحد من بين امراض كثيرة تصيب العقل العربي بحالة فريدة من التكلس والجمود. لقد غادر المحافظ الاسلامي مدينة المنستير وتبددت جميع المخاوف والاوهام التي كانت تصوره غولا سوف ينسف الحضارة ويخربها بالكامل ثم يعيد اهلها الى عصور الظلمات اما تمثال الزعيم فقد بقي في مكانه لكن بلا ازعاج خيمة الاعتصام فيما ظهرت على وجوه بعض الموظفين حسرة مكتومة على تجربة استثنائية غير مسبوقة لم يكتب لها ان تعمر الوقت الكافي حتى يمكن جني ثمارها وهي تجربة المحافظ الاسلامي في بيت بورقيبة. "القدس العربي"