حموشي يتباحث بالدوحة مع مدير جهاز "أمن الدولة" القطري    كومنولث دومينيكا تجدد تأكيد دعمها للوحدة الترابية ولسيادة المغرب على كامل أراضيه بما في ذلك الصحراء المغربية    التعاون القضائي في صلب مباحثات وزير العدل مع نظيريه الغيني والكونغولي    الحسيمة.. موظفو الجماعات الترابية يشلون الإدارات لثلاثة ايام    المؤتمر الوزاري الرابع لمبادرة تكييف الفلاحة الإفريقية مع التغيرات المناخية : إفريقيا لا تعبئ سوى 11.4 مليار دولار سنويا من أصل 580 مليارا تحتاجها للتمويل    الفلاحة المستدامة.. القرض الفلاحي للمغرب والوكالة الفرنسية للتنمية يوقعان اتفاقيتي قرض    المغرب – فرنسا: التوقيع على خارطة طريق للشراكة في مجالي الفلاحة والغابات    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    بورصة الدار البيضاء : تداولات الافتتاح على وقع الانخفاض    أمل تيزنيت يستنكر الأخطاء التحكيمية التي ارتكبت في مباراته أمام جمعية المنصورية    توقعات أحوال الطقس غدا الأربعاء    حنان حمودا تصدر طبعة ثانية لكتاب "الماء وصناعة المقدس: دراسة أنتروبولوجية لبنيات المجتمع الواحي بالمغرب"    دار الشعر بتطوان تحتفي ب "ليلة الملحون"    الراصد الوطني للنشر والقراءة في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    خالد آيت الطالب يترأس مراسيم تقديم التحليل الظرفي للأمراض غير السارية (صور)    المغرب وفرنسا يوقعان على خارطة طريق للشراكة في مجالي الفلاحة والغابات    بعد أزمة نهضة بركان.. الاتحاد الدولي للمصارعة يعتمد خريطة المملكة في أقمصة المنتخب    الإسلام في فرنسا وتكوين الأئمة .. باريس تبحث الاستفادة من تجربة الرباط    قضاء الاستئناف يرفع عقوبة رضا الطاوجني    بنموسى: الأزمة التي عاشتها المنظومة التعليمية شكّلت لنا فرصة للإصلاح    طنجة.. توقيف ثلاثة أشخاص بتهمة ترويج مخدر الكوكايين    شخص يهدد بالانتحار بتسلق عمود كهربائي    وزارة التربية الوطنية تشرع في عقد المجالس التأديبية للأساتذة الموقوفين وسط رفض نقابي لأي عقوبة في حقهم    الذهب ينخفض لأدنى مستوى في أكثر من أسبوعين مع انحسار مخاوف الشرق الأوسط    حرائق الغابات تجتاح عددا من مقاطعات كندا    أكادير.. الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ من 25 إلى 28 أبريل الجاري    الموت يفجع زوج دنيا بطمة السابق    بكين تنفي "كل المزاعم بتجسس صيني"    العلاج بالحميات الغذائية الوسيلة الفعالة للشفاء من القولون العصبي    هذه هي الرياضات المناسبة إذا كنت تعاني من آلام الظهر    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و183 شهيدا منذ بدء الحرب    مفاجآت بالجملة تقرب "الكوديم" من اللقب وتنعش آمال أولمبيك خريبكة في العودة إلى دوري الأضواء    سباق النصر النسوي يطفىء شمعته ال 14 يوم الأحد المقبل وسط أجواء رياضية واحتفالية    كوريا الشمالية تطلق عدة صواريخ باليستية قصيرة المدى باتجاه البحر الشرقي    سلسلة زلازل تضرب تايوان أشدّها بقوة 6,3 درجات    فرنسي يبصق على مؤثرة مغربية محجبة قرب برج إيفل (فيديو)    اللي غادي لفرانسا لخميس وماشي لشي غراض مهم يؤجل رحلتو الجوية حتى الجمعة وها علاش    القميص ‬البرتقالي ‬يمرغ ‬كبرياء ‬نظام ‬القوة ‬الضاربة ‬في ‬التراب‬    الاتحاد المصري يستدعي المغربي الشيبي    اتفاق "مغاربي" على مكافحة مخاطر الهجرة غير النظامية يستثني المغرب وموريتانيا!    الصين: مصرع 4 أشخاص اثر انهيار مسكن شرق البلد    الموت يفجع طليق دنيا بطمة    تصنيف "سكاي تراكس" 2024 ديال مطارات العالم.. و تقول مطار مغربي واحد ف الطوب 100    بنما.. الاستثمار الأجنبي المباشر يتراجع بأزيد من 30 بالمائة منذ بداية العام    ماذا نعرف عن كتيبة "نيتسح يهودا" العسكرية الإسرائيلية المُهددة بعقوبات أمريكية؟    بطولة إيطاليا-كرة القدم.. "إنتر ميلان" يتوج بلقبه ال20    ادعاء نيويورك كيتهم ترامب بإفساد الانتخابات ديال 2016    هل يمكن لفيزياء الكم أن تقضي على الشيخوخة وأمراض السرطان؟        سعد لمجرد يكشف تفاصيل لقائه بجورج وسوف    أسامة العزوزي يسجل في مرمى روما    الأمثال العامية بتطوان... (579)    تقوى الآباء تأمين على الأبناء    وفاة الشيخ اليمني عبد المجيد الزنداني عن 82 عاما    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    السعودية تعلن شروط أداء مناسك الحج لهذا العام    الأسبوع الوطني للتلقيح من 22 إلى 26 أبريل الجاري    الأمثال العامية بتطوان... (577)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آمال عوّاد رضوان تحاور الباحث والمربّي الموسيقيّ الفلسطينيّ سهيل توفيق رضوان
نشر في أون مغاربية يوم 28 - 10 - 2011

هل ما زلتَ تقفُ على أطراف البروة القرية الفلسطينية المهجرة والتي حملت شهادة ميلادك، وتنفست مِن ربوعِها طفولتك؟
والدي توفيق وُلد وترعرع في قرية البروة المهجّرة، وفي أواخر الحُكم التركيّ تهرّب من الجنديّة وهاجر إلى جنوب أميركا لمدّة سنتين، ورجعَ إلى قريته بعد انتهاء حُكم الأتراك، حين بدأ الاحتلال البريطانيّ. عمل والدي في الشرطة وتنقّلَ في عمله إلى صفد، ثمّ بيسان حيث وُلدت، ثمّ إلى الناصرة، القدس، حيفا، عكّا ورجوعًا للناصرة، حيث قضيت عهدَ الشباب، وأنهيت الصّف الثاني ثانويّ، وانتخبتُ للتعلم في الكليّة الرّشيديّة في القدس في آخِر سنة للانتداب، وقبل الحرب بين العرب واليهود عام 1948، والتي أدّت إلى احتلال البلاد على يد جيش الهجناة الدّفاع.
*سهيل رضوان الذي عايشت طفولته عام 1948، ماذا حملَ مِن بروة المقاومة، وإلى أيّ مدى ساهمت البروة كإحدى القرى المهجرة في صقل شخصيّته كإنسان وموسيقار؟
لا أزالُ أذكرُ قريتي البروة التي كنت أقضي فيها الإجازاتُ والعُطلة الصّيفيّة، وأذكر الحارات والدّار التي كان يسكنها جدّي رضوان وبقيّة العائلة، ولا أزالُ أذكر أرض "عويص" الواسعة التي كان يملكها جدّي وفيها جميع أنواع الفاكهة والخضار، ولا أنسى كذلك أرض الموارس والمقاتي المليئة بالخضار والخرّوش والبطيخ، وفي مخيلتي بيت جدّي في الطابق الأوّل حيث يتواجدُ الطّرش من الأغنام، وكنّا ننامُ في الطابق الثاني حيث كنا نصعد على سلّم خشبيّ. إنّني لا زلت أشعر بالانتماء والاعتزاز والحنين إلى قريتي البروة وناسها وحاراتها والطفولة، وأقوم بزيارة البروة بين الحين والآخر، خاصّة في "يوم ذكرى استقلال إسرائيل"، لأقفَ على أطلال الذكريات والحارات، وعلى أنقاض الكنيسة التي هُدّمت بالكامل قبل عشرة أعوام تقريبًا، حيث حُوّلت أرضُها إلى مزبلة لروْث البقر، لحظائر البقر المجاورة.
*ما دلالة "سَكَس" العائلة تاريخيّا؟ ولمَ انشققتَ عن اسم العائلة المتعارَف عليه؟
كنية عائلتي الأصليّة سَكَس، ولكن عندَ إصدار الهُويّات الإسرائيليّة سجّلت اسم عائلتي رضوان، على اسم جدّي رضوان الذي تشبّث بأرضِهِ في البروة، ولم يغادرها هو وبعض المسنّين بعد دخول جيش الهجناة اليهوديّ، وبعد تدمير بيوت القرية، وقد مات في أرضِهِ بعدَ فترة وجيزة، ولم نعرف كيف مات أو بأيّة ظروف مات أو قُتل، والأمرُّ أنّنا لم نتمكّن مِن تسلّم جثّته، او معرفة المكان الذي دُفن فيه!
*سهيل رضوان من روّاد الموسيقا العربيّة في فلسطين.. كيف كانت بداياتك مع الفنّ؟
منذ احتلال الناصرة وإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، كنت في وضعٍ غير مستقرّ كسائر أبناء جيلي في فلسطين، إذ لم أُنْهِ دراستي الثانويّة لأخذ شهادة المتركوليشن، ولكن حبّي للدّراسة العالية دفعني للانضمام إلى الصّفوف الخاصّة، تحضيرًا لشهادة المتركوليشن الأخيرة، عن طريق المعهد البريطانيّ في الناصرة، وحصلت على الشهادة عام 1951.
عام 1952 انضممت إلى جوقة الطليعة في الناصرة التي أسّستها حركة الشبيبة الشيوعيّة، وأمضيت فيها سنتين، فتوطدت بيني وبين مدير الجوقة ميشيل ديرملكنيان علاقة وطيدة، وتحمّستُ لدراسة الموسيقا عنده، ومن ثمّ عند أساتذة متخصّصين في حيفا.
تعيّنت كأوّل مُعلّم للموسيقا في مدارس الناصرة الابتدائيّة، وفي الأعوام 1953- 1954 التحقت بسيمينار الكيبوتسيم في قريات عمال، وحصلت على دبلوم معلّم موسيقا مؤهَّل!
* دوْرُكَ مشهودٌ له تاريخيًّا وفنيًّا في الحركة الموسيقيّة الفلسطينيّة، وقد شاركتَ بتأسيس العديد من الفِرق الموسيقيّة والجوقات الكنسيّة، فما هي الدّوافع لانطلاقاتك الفنيّة، والتي أثرت بشكلٍ إيجابيّ فاعلٍ في بناء أجيال وأجيال موسيقيًّا؟
الحسّ الموسيقيّ المُرهف والتذوّق الجماليّ للموسيقا وثقافتي الموسيقيّة دفعوا بي في أواخر الخمسينيّات لإقامة جوقة كنسيّة في كنيسة مار يوحنّا في حيفا لمدّة سنتين، ثمّ انتقلت وأقمت جوقة كنسيّة أخرى في الكنيسة الأرثوذكسيّة في حيفا، بناءً على طلب كاهن الطائفة المرحوم قُدس الأب جورج حرب، وبطبيعة عملي في مدارس الناصرة وحبّي لبلدي ولأهلها أقمتُ جوقاتٍ مدرسيّةً بمستوى جيّد، أهّلتنا أن نحصلَ كلّ سنة على شهادات تقدير في مهرجانات الجوقات المناطقيّة والقطريّة.
*ما هو وجه الشبه بين الباحث في الموسيقا والباحث عن الحقيقة، وما الذي دفعك إلى مشروعِكَ الضخم، والاعتكاف على تجميع الزجل الشعبيّ والأغاني الشعبيّة منذ سنين؟
في السنوات ما بين 1956 – 1961 عملت كمساعد في الأبحاث الموسيقيّة في قسم الموسيقا الإلكترونيّة في الجامعة العبريّة في القدس، وكان لدراستي الموسيقيّة فضلٌ في تنمية وعيي إلى أهمّيّة التّراث في حضارة الشّعب الفلسطينيّ، وتنمية حسّي الوطنيّ وشعوري بالمسؤولية تجاه بلدي ووطني، وخوفًا من اندثار ما تبقّى من تراث موسيقيّ شعبيّ لذا توجّهت لهذا المشروع، وتمكّنت من جمع المئات من الأزجال الشّعبيّة من عدّة قرى في البلاد.
ما هي المُعيقات التي واجهتها في لملمة التراث الفنّيّ الفلسطينيّ الموسيقيّ بدقائقِهِ وتفاصيلِهِ؟
من ناحية كان الوضع في السّتينيّات أسهل في البحث، لأنّ العدد المتوفّر ممّن أفادوا البحث من فنانين وزجّالين من الرّجال والنساء في ذاك الجيل القديم كان كبيرًا ومتوفرًا بكثرة من كبار السّنّ، فتمكنت خلال أربع سنوات متواصلة من الحصول على تسجيلات صوتيّة لساعات طويلة لفنانين وزجّالين ومغنيين شعبيّين قبل أن توافيهم المنيّة وهُم كُثر، وذلك بفضل آلة التسجيل الحديثة والنّادرة التي اقتنيتها في ذاك الحين خصّيصًا لهذا المشروع، ولا زلت أحتفظ بكامل هذا الإرث الكبير النادر وهذه التسجيلات الصّوتيّة التي تجاوزت الخمس ساعات، مُرفقة بالغناء القديم الحقيقيّ، فالعمل اليوم جاهز يحتوي على كتاب للأغاني المكتوبة وتسجيلات صوتيّة.
وما ساهمَ في نجاح هذا المشروع هو نقاء القرى وعاداتها القديمة، التي كانت لا تزال قائمة في الأفراح والأتراح والمناسبات ومجالات الحياة المختلفة، إذ كان القديم يعتمدُ على الزّجل والفنّ الشعبيّ، بينما اليوم فقد تغيّرت العادات والتقاليد الفنيّة، وقلّ عدد الزجالين وفناني التراث الشعبيّ، وصار أغلبيّة الجمهور مع الموسيقا الحديثة الصّاخبة.
من ناحية أخرى كانت صعوبات جمّة في البحث تحتاج إلى مغامرة ومثابرة، لأنّ القرى كانت بعيدة والوصول إليها كانَ صعبًا، بسبب عدم توفّر السّيّارات ووسائل النقل كاليوم، وكان التنقل والوصول إلى تلك القرى في الحكم العسكري يتمّ فقط بتصريح من الحاكم العسكريّ بين القرى النائية، ولكن ورغم كلّ الصّعوبات كانت القرى بأصالتها وزخمها التراثيّ تستقطبني إلى أهلها المُرحِّبين والمُتعاونين المتفاعلين مع بحثي حينذاك لمتابعة المشوار، فلم تكن كالمدن والمراكز المدنيّة التي تعرّضت للحداثة وللتعديلات الفنيّة، وكلّما كانت القرية تبعُد أكثر عن المدينة كان التراث أبعد عن التأثر بالموسيقا الحديثة، كذلك في السّتينيّات كان التراث الموسيقيّ متوفّرًا بشكل زخم وكبير، يتماشى بخط موازٍ مع الحالة الوطنيّة والنّضاليّة والشعبيّة آنذاك.
كان الدّافع الأساسيّ في بلورة فكرة هذا البحث هو دراستي الجامعيّة، كأطروحة لرسالة الدكتوراه، ولكن للأسف الظروف لم تواتيني، ولم تسمح لي في إكمال دراستي وإتمام طموحي في هذا المشروع الثراثيّ، الذي بقي في طيّات دُرجي حتى اليوم، لأنّ الناحية المادّيّة وقفت عائقًا أمام إصدار هذا العمل التراثي الكبير، فالتكلفة حوالي عشرين ألف دولار، وقد توجّهت للسّلطة الفلسطينيّة عن طريق جمعيّة قطان وجمعيّة تعاون لدعم هذا العمل، ولكن للأسف اعتذروا ولم يدعموا، كذلك توجّهت لجمعية التعاون في القدس وطلبت دعم الفرقة العربيّة الموسيقيّة وأيضًا رفضوا، لأنّهم يُخصّصون الدّعم لمنطقة القدس نفسها، وبالرّغم من هذا الطرْق للجهات البعيدة والقرع على أبواب المساندات والدّعم لم تُفتح لنا الأبواب، ممّا زوّدني هذا بالإحباط، لأجد أنّنا عرب فلسطين المرابضين على جذور أرض الوطن، لا زلنا نعاني من حصْرِنا في المناطقيّة وحصارِنا في المَحليّة التي لا يمكننا الخروج منها، إلا بدعم أشقّائنا في الضّفة الأخرى من فلسطين ومن عالمنا العربيَّ،
والغريب ومن سخرية الأقدار، أنّي توجّهتُ بالتالي لطرق باب مركز الكتّاب والمكتبات الإسرائيلي، وقد فوجئت بموافقة لجنة دعم المؤلفات العربيّة عليه، ووافقت على شراء عدد من الكتب وتوزيعها في المكتبات العامّة المحليّة، ليظلّ المشروع رهين المحليّة وحبيس الداخل؟!
*لماذا بقي الفن الفلسطينيّ محصورًا بالتقليد المحلي، رغم أنّ المخزون الفلسطينيّ مليء بالحكايا والأحداث القادرة على تفجير المواهب؟
السّبب أننا محرومون من الوصول إلى العالم العربيّ. مثلاً على سبيل المثال، فقد اشتركت بالأبحاث في مصر أربع مرّات، ليس كممثّل عن عرب فلسطين الدّاخل، بل تحت بند فلسطين، وبإلغاء كامل لوجودنا كعرب في "إسرائيل"!
لماذا يتهرّبون من التعاون معنا كعرب 48؟ هذا الأمر غير واقعيّ أبدًا، لأنّنا استطعنا أن نتشبّث في أرضنا رغم المصاعب، فلماذا لا يُعترَف بنا كفلسطينيّي 48 وككيان وحضور قائم ومناضل؟
النقطة الثانية أنّ عملنا ككتّاب ومبدعين وفنانين وعلميّين ومثقفين نظلّ في قوقعة مُبعَدة عن العالم العربيّ، وتظلّ أعمالنا وإنجازاتنا وإبداعاتنا محصورة محلّيًّا، لا يكاد يُغطي تكاليفها السّوق المحليّة الضّعيفة، فعلى سبيل المثال أيضًا قمت بعمل جبّار، بتدوين الكتب الموسيقية المنوّتة، لكن لم يُسوّق الكتاب عربيًّا، وهذا العمل المُضني لم يُغطِّ تكاليفه!
*هل لمست بمرحلة من المراحل أننا أمام نهضة فنيّة؟
نعم.. إيماني بالفنّ والموسيقا وبرسالتي الموسيقيّة دفعني في السنوات ما بين 1962- 1974 إلى إقامة قسمٍ للموسيقا العربيّة في معهد روبين للموسيقا في حيفا، حيث تخرّجَ من هذه النواة الموسيقيّة العربيّة أكثرَ من خمسين طالبًا، انضمّ غالبيّتهم لاحقًا لسلك التعليم كمعلّمين مختصّين للموسيقا، ومُساهمين في رفع شأن الموسيقا في البلاد.
عام 1966 عُيّنتُ مفتّشًا للموسيقا في المدارس العربيّة، حيث قمت بإجراء قفزةٍ نوعيّة في الثنائيّة الموسيقيّة في البلاد، وأجريتُ عدّة دوراتٍ موسيقيّة للتأهيل، وأصدرت كتبًا لمجموعة أناشيد مدرسيّة من ألحاني الخاصّة أو بألحان شعبيّة.
عام 1968 حصلت على شهادة B.A من جامعة حيفا التي كانت تتبع لجامعة القدس، وذلك في اللغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة، وعام 1976 حصلت على شهادة الماجستير من جامعة القدس، وحتّى نهاية السّبعينيّات تمكّنت من توجيه أكثر من خمسين مُعلّم موسيقا، وُزّعوا في أكثر من مئة مدرسة عربيّة في البلاد.
في الأعوام 1972 -1984 قمت بإنتاج برامج موسيقيّة في التلفزيون الإسرائيلي، بِدءًا مِن البرنامج الموسيقي "من أجوائِنا الغنائيّة"، التي شملت برامج زجليّة متنوّعة، ثمّ برنامج "مِن ليالينا"، والذي شمل أغاني شعبيّة وأدوارًا ومواويلَ منوّعة ومواويلَ نصراويّة، وكان المشتركان الرّئيسيّان لهذا البرنامج هما الفنانيْن موشيه إلياهو وخليل موراني، ثمّ أنتجتُ برنامجًا "من ألحانِنا المَحلّيّة"، لدعم وإنتاج المُلحّنين والمُغنيين المَحلّيين، وأخيرًا عام 1980 قدّمت برنامج "الموشّحات"، والذي أشرف عليه الموسيقيّ المعروف زكي سرور.
في سنوات الثمانينيّات كانت قفزة نوعيّة ثانية، تمّت بعد فتح فرع موسيقيّ لصفوف الموسيقا في دار المعلمين في حيفا، والتي كنت أديرها، وقد تخرّج منها أكثر من ثلاثين خرّيجًا بدرجة معلّم مؤهّل كبير، والذي أضاف كادرًا شبابيًّا جديدًا إلى مُعلّمي الموسيقا في البلاد، وساعد على إثراء التربية والثقافة الموسيقيّة في المجتمع العربيّ!
*قلت في أحد حواراتك أنّ "الموسيقا كانت بنظر الفرس أدبًا، وبنظر الرّوم فلسفة، أمّا بنظر العرب فأصبحت عِلمًا"، فهل ما زلت تؤمن بهذه النظرة، رغم هذا الاجتياح الهائل من الفنّ الهابط؟
صحيح أنّ قسمًا من الجيل الحديث آخذٌ في التّوجّه للموسيقا الشّبابيّة الحديثة الصّاخبة سريعة الإيقاع الرّاقصة، وهذا ما يلاحظه معلمو الموسيقا، ولكن بما أنّني قمت بواجبي نحو مجتمعنا العربيّ، وساهمتُ بوضع حجر الأساس للتربية والثقافة الموسيقيّة وتأهيل معلّمي موسيقا وكادر من الفنانين الأصيلين، كما أصدرت في الثمانينيات كتاب تربويّ للمدارس العربيّة بعنوان "كلمة ونغم"، ترجم إلى العبريّة أيضًا، من هنا أرجع وأعود إلى المقولة التي أشرت إليها في عدّة مقالات، "أنّ النظرة إلى الموسيقا العربيّة الرّاقية أصبحت عِلمًا كما كانت أيّام العبّاسيّين".
بعد هذا المشوار الفنيّ والمسيرة الحافلة بالعطاء بالفنّ الأصيل.. كيف ترى التطوّر الفنّيّ في البلاد؟
بدأ الأهالي في توجيه إبنائهم إلى تعلّم الموسيقا ممّا يدلّ على بوادر الاهتمام بالموسيقا كثقافة، وتغيّرت النظرة نحو الموسيقا وتطوّرت وارتقت باهتمام ملموس، وفي معظم القرى هناك أكثر من خمسين مُعلّم مختصّين بالموسيقا، والذين بدؤوا بإثراء الثقافة الموسيقيّة في المدارس، وكثرت المعاهد الموسيقيّة والمؤسّسات في القرى وليس فقط في المدن، وفي القدس هناك أكاديميّة للموسيقا العربيّة تخرّج عازفين مختصين على اللآت الشرقية، وهناك فرع ميوزيك ثرابي في جامعة حيفا؛ أي موسيقا للعلاج عن طريق الموسيقا، وقد بدأت بهذا النوع من الموسيقا العلاجي الفنانة كيتي جرجورة النّصراويّة، ولديها جوقة غنائيّة باسم "عود الندّ".
*هل استطعتَ عبْر فرقة الموسيقا العربيّة أن تحقّق طموحَكَ الإنسانيّ والفنّيّ والوطنيّ؟
من ناحية إنسانيّة وطنيّة هناك شعور براحة نفسيّةٍ وشخصيّة تجاهَ البلد والوطن، إذ ساهمتُ في وضع المدماك الفنيّ الأصيل ودعم النّشاطات الموسيقيّة الإيجابيّة محلّيًّا، ولكن على صعيد العالم العربيّ، فلا زال يُراودني شعورٌ بالإحباط من تعامل الدّول العربيّة مع عرب 48 من فنانين ومبدعين ومثقفين، ومِثلي مثل سائر أهل بلدي المبدعين، لم أحصل على الاعتراف بكينونتي وحضوري وإبداعي ووجودي كعربيّ، ولم تتجسّد مكانتي الحقيقيّة عربيّا، رغم أنّ فرقة الموسيقا العربيّة لها مكانتها الرّاقية، وهي الفرقة المهنيّة والتي ظهرت في دول أوروبيّة عديدة، وحتى أنّ اليهودَ الشرقيّين في بلادنا يعيشون مِن خلال عروض فرقة الموسيقا العربيّة حالة نوستالجيا، لأنّ الفرقة تتحدّث عن فنّاني العالم العربيّ، وتُعطيهم حقّهم في تاريخهم الفنيّ.
لقد كان الفن في الأربعينيّات والخمسينيّات في مصر في ذروته، حيث كُتبت روائع القصائد الغنائيّة لكبار الشعراء، والتي غناها عبد الوهاب، أسمهان، أم كلثوم، فريد الأطرش، وردة الجزائرية، عبد الحليم حافظ، نجاة الصغيرة، ليلى مراد وإلخ..
أمّا في لبنان فقد بدأت نهضة موسيقيّة كلاسيكيّة في الخمسينيّات، بدءًا من الحركة الكلاسيكيّة ومهرجانات بعلبك، حيث انطلق المبدعون والمبدعات مثل فيروز، صباح، وديع الصافي، زكي ناصيف، ماجدة الرّومي، ومدرسة الرّحابنة التي حاولت إرضاء الذوق الشّرقيّ بترجمة الألحان الغربيّة بروح شرقيّة، وبأجواءٍ حميميّة تتغنّى بالوطن والرّيف والضّيعة والشّجرة والأرض والجَمال.
لكن في الثمانينيات بدأت الموسيقا العربيّة تبتعد عن أصالتها وتنحرف عن مسارها الفنيّ الأصيل، وعَمّ تلحين كلماتٍ مبتذلةٍ وسطحيّة، بدلاً من الكلمة والقصائد التي كان لها وزنها وإبداعها وشعراؤها، والتي كانت تمثل لغة شعبيّة وفصيحة راقية، وصارت المادّة هي الدّافع اعتمادًا على الأغنية المرئيّة في عروضها وحركاتها ولباسها وإغرائها، وتحوّلت الأغاني الحيّة والمسموعة من التذوّق السّمعي والتسجيلات الصّوتيّة والسّيديهات إلى تسجيل الصّورة والحركة، وغزا الفيديو كليب المبتذل عين الوطن العربيّ، بدلاً مِن أن يُغذّي أذنه الذوقيّة السّماعيّة بالفنّ الأصيل الرّاقي.
ما أعتزّ به أنّ فرقة الموسيقا العربيّة تحافظ على أصالتها منذ عام 1990، من ناحية تركيبها بآلاتها الوترية وآلات الإيقاع والناي الشرقيّة كآلة نفخ، وتتجنّب الآلات الغربية مثل الجيتار والبيانو والاكورديون وغيرها، كي تحافظ على الرّوح الشّرقيّة التي تؤدّي الموسيقا الشرقيّة دون تشويه وتزوير!
*هل انحسارُ دوْر الفِرق والجوقات الفنيّة في عروض دوريّة ورسميّة نابعٌ من وجود هوّة بين الجمهور وهذه الفرق، أم أنّ هناك عوامل أخرى جعلت مِن الفِرق حبيسة أمكنتها؟ وكيف تفسّر نجاح المطربين الهواة على حساب الفِرَق والجوقات الفنيّة؟
الجوقات والفِرق الرّسميّة تحتاجُ إلى معاملات وأوراق رسميّة في المؤسّسات الحكوميّة، وتتطلب مصاريف وتكاليف ينبغي تغطيتها من أجل أن تستمرّ، ولكن بما أنّ الأعمال الفنيّة الرّاقية لا تُدرّ مدخولاً وافرًا على الفِرق الموسيقية والجوقات والفنّانين، وكذلك جمهورُ الحفلات الموسيقيّة يكون قليلاً نسبيّا، بسبب الضغوطات الماديّة والانشغالات الحياتيّة اليوميّة، وبسبب تدنّي التذوّق الفنّيّ والتوجّه للرّقص، وليس للتعمّق النّفسيّ الذي يُقوّي شخصيّة ومفاهيم وخيال الإنسان الإبداعيّ، فعمليًّا يلجأ الفنانون للأعراس التي تستقطب جمهورًا يُجامل أهل الفرح والواجب، وكذلك أكثر مدخول الفنانين في بلادنا اليوم الذي نأسف له هو من الأعراس والأفراح والمناسبات، رغمَ أنّ أجواءَ الأفراح لا تدعم الإبداع والتذوّق الحقيقيّ للموسيقا العربيّة، بل تعتمد على الإيقاع والضجّة والصّراخ والأصوات القويّة للسّماعات، ممّا يُساهم في تشويه اللّحن وتدَنّي الذّوق الموسيقيّ العامّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.