ما بين الواقع والمواقع مساحة شاسعة من التأويل المضلل، حيث تتسلل مقاطع قصيرة إلى واجهة المنصات الاجتماعية، حاملة رسائل توحي بتغير في مزاج الجالية المغربية تجاه وطنها، أو فتور في ارتباطها بمواعيد العودة السنوية. وعلى خلفية هذا الخطاب الرقمي المتزايد، تتدفق حركة عبور مضيق جبل طارق بوتيرة هادئة لكنها ثابتة، محملة بدلالات تتجاوز مجرد الارقام، وتضع السرديات المنتشرة على المحك. ففي الوقت الذي تتداول فيه بعض الحسابات المؤثرة صورا لموانئ فارغة وسفن توشك على الابحار دون ركاب، تتوالى المؤشرات القادمة من الضفة الشمالية لتفند هذه الانطباعات. واستقبل ميناء طريفة، احد ابرز نقاط العبور إلى المغرب، مطلع هذا الاسبوع تدفقا لافتا للمركبات والعائلات، في مشهد لا يحمل اية اشارة إلى تراجع، بل يعيد إلى الاذهان مشاهد الذروة المعتادة في المواسم القوية لعملية مرحبا. وتؤكد المعطيات الصادرة عن السلطات الاسبانية هذه الصورة، حيث تم تسجيل اكثر من 36 الف مسافر ونحو 9 الاف مركبة يوم 27 يوليو فقط، وهو رقم يعد من بين الاعلى خلال هذا الموسم. وبحسب المصدر نفسه، بلغ عدد العابرين منذ انطلاق العملية إلى غاية التاريخ ذاته ازيد من 1.13 مليون مسافر و280 الف عربة، ما يمثل زيادة قدرها 3.7 بالمئة و3.8 بالمئة على التوالي مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية. وفي موانئ أخرى مثل الجزيرة الخضراء وموتريل، لوحظ ارتفاع ملحوظ في عدد الرحلات البحرية والضغط على انظمة الحجز، خصوصا خلال عطلة نهاية الاسبوع. وتعيد هذه المؤشرات الميدانية، التي لم تواكبها تغطية متوازنة في الفضاء الرقمي، التأكيد على ان العلاقة التي تربط مغاربة الخارج بوطنهم لا تختزل في موجة محتوى عابر او خطاب ظرفي موسوم بالانفعال. واعلن وزير الداخلية الاسباني فرناندو غراندي مارلاسكا، الذي زار ميناء طريفة في وقت سابق من هذا الشهر، من جانبه ان العملية سجلت ارتفاعا في عدد المسافرين فاق 5.6 بالمئة، وفي عدد المركبات تجاوز 6.9 بالمئة، مقارنة بصيف 2024. وتقرأ هذه مؤشرات ايضا في سياق التحسن المستمر في تنسيق الخدمات بين الجانبين المغربي والاسباني، على مستوى الاستقبال والتنظيم والاجراءات اللوجستية. لكن في مقابل هذا الزخم الميداني، تتصاعد موجة وصفها خبراء الاعلام الرقمي ب"التشاؤم المصطنع"، تعتمد على مشاهد منتزعة من سياقاتها الزمنية او الجغرافية، تروج بوصفها دليلا على قطيعة او حالة تذمر جماعية. ويرى محللون ان هذا النوع من المحتوى يتغذى من آليات التفاعل القصير المدى، حيث تمنح الاولوية لما هو صادم او مثير على حساب ما هو دقيق او موثق. وتثير هذه الفجوة بين الواقع الرقمي والميدان الحقيقي اسئلة تتعلق بحدود حرية التعبير في المنصات المفتوحة، وما اذا كانت بعض الاشكال من التضليل وان جاءت في ثوب ساخر او احتجاجي يمكن ان تصنف كمساس غير مباشر بالثقة المؤسساتية، خاصة عندما يتعلق الأمر بجالية تعتبر العودة الصيفية امتدادا لروابطها السيادية والعاطفية مع الوطن. وفي هذا السياق، ترتفع اصوات داخل اوساط الجالية والاعلام الوطني تدعو إلى الحذر من الانجرار وراء خطاب سطحي يبنى على مشاهد مجتزأة، دون استحضار الخلفيات او التدقيق في التوقيت او الموقع الجغرافي. كما تطرح الحاجة إلى ادوات استباقية تدمج بين التوعية الرقمية والرصد الموضوعي لمصادر المحتوى المؤثر، دون السقوط في الرقابة او المواجهة الفجة. وعلى امتداد هذا الجدل، تظل عملية "مرحبا" اكثر من مجرد جسر موسمي للعبور. انها تقليد سيادي راسخ، تختبر من خلاله الدولة نجاعة تنظيمها، وتجد فيه الجالية مرآة لعلاقتها مع الوطن. وفي مواجهة المحتوى الرقمي الموجه، وحدها الارقام على الارض، والزحام في الموانئ، والابتسامات العابرة على متن البواخر، تبقى كفيلة باعادة ضبط الصورة.