لا يخفي الكثير ممن قرؤوا تجربة حكومة عبد الله إبراهيم أن هذه الحكومة حققت للمغرب الخارج لتوه من فترة الحماية والاستعمار، الكثير من المنجزات التي كان يمكن أن تصنع منه بلدا آخر غير الذي عاشه مباشرة بعد سقوطها. فعلى امتداد حوالي 520 يوما فقط، هي كل عمر هذه التجربة الطلائعية في تاريخ المغرب الحديث، توقف الدارسون عند مجموعة من المحطات، أهمها تسريع إيقاع جلاء كافة القوات الأجنبية عن البلاد. لقد دخل عبد الله إبراهيم في مفاوضات مباشرة قادته إلى مفاوضة الجنرال إيزنهاور بعد إقناعه بأن لا حق للحكومة الفرنسية في بيع قواعد ومنشآت للأمريكيين باعتبارها كانت سلطة احتلال. وقد كتب عبد الوهاب بن منصور في كتابه عن الحسن الثاني أنه «بعد الرحلة الموفقة التي قام بها الرئيس عبد الله إبراهيم إلى واشنطن، قبل الأمريكيون مبدأ الجلاء عن قواعدهم بالمغرب». كما باشرت حكومته، من خلال وزيره في المالية والاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان يشغل في نفس الآن منصب نائب رئيس الحكومة، مخططا واسعا للإصلاح الزراعي عبر بناء صناعة للحديد والفولاذ، ونزع الضيعات التي كانت لا تزال مستغلة من طرف الفرنسيين، مع إنشاء تعاونيات كبرى. كما أن قرار الفصل مع الفرنك الفرنسي، وإنشاء بنك مركزي مغربي، وإحداث صندوق للإيداع والتدبير، وبنك للاستثمارات الوطنية، وصندوق للتوفير، شكل ضربة موجعة للكثير ممن اعتقدوا بأن خروج المستعمر الفرنسي من الباب قد يعود من النافذة، خصوصا أن ركوب قطار الاقتصاد والمال لم يعجب الكثير من خصوم هذه الحكومة. ولذلك قال الأمير مولاي الحسن للمقربين منه، بمن فيهم الملك محمد الخامس، إن حكومة عبد الله إبراهيم تدين بالولاء للمعسكر الشرقي لأنها تحمل أفكارا يسارية تريد أن تنزلها على أرض الواقع المغربي. لذلك يحكي بعض الذين عاشوا هذه اللحظات كيف أنه، أثناء ترؤس الملك محمد الخامس، الحفل الذي احتضنه بنك المغرب بمناسبة الإعلان عن نهاية عهد البنك المخزني، كان استقلاليون متحالفون مع أحمد رضى اكديرة يوزعون على الحاضرين في الحفل، من مغاربة وأجانب، منشورا يتهم عبد الرحيم بوعبيد بالخيانة، بدعوى أنه قدم لفرنسا بعض التنازلات أثناء المفاوضات مع وزير المالية الفرنسي أنطوان بيني، الذي كان فاليري جيسكار ديستانغ، رئيس الجمهورية الفرنسية بعد ذلك، هو مدير ديوانه. وتبقى خطوة تطهير الإذاعة الوطنية من الأجانب واحدة من المعارك التي خاضها عبد الله إبراهيم وفريقه الحكومي وكسب فيها الرهان، على الرغم من كل العراقيل التي اعترضت سبيله في ذلك. وشكلت عملية تسريع المباحثات لبناء المغرب العربي الكبير، باستضافة مؤتمرين في كل من طنجةوالرباط، ومواصلة دعم الثورة الجزائرية على كافة المستويات، القضية الأساسية في السياسة الخارجية لهذه الحكومة، على الرغم من أن البعض ربط بين سقوط عبد الله إبراهيم، وموقفه الحازم والشجاع من القضية الجزائرية آنذاك. سيعترف عبد الله إبراهيم للكثيرين بأن جهات وازنة في الدولة المغربية هي التي تواطأت مع السلطات الفرنسية لإنجاح عملية اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين الخمسة في صيف 1956، وتوجيهها نحو فرنسا لاعتقالهم، علما أن بعض الجهات سبق لها أن حاولت اتهام ولي العهد الأمير مولاي الحسن في هذا الملف. إلا أن رد عبد الله إبراهيم كان قاطعا، إذ أكد أن ليست لديه أدلة كافية لاتهام هذه الجهة أو تلك من داخل المغرب بهذا العمل الإجرامي، الذي أثار موجة من المظاهرات المعادية للفرنسيين في مختلف المدن المغربية، نجمت عنها خسائر في الأرواح والممتلكات. وفور بلوغ الخبر إلى علم قيادة جيش التحرير تشكلت مجموعة مسلحة توجهت إلى مطار الرباطسلا، قصد اعتقال التقنيين الفرنسيين، إلا أنهم كانوا قد غادروا التراب المغربي فور نجاح العملية، وقد سبق أن بعثوا بعائلاتهم إلى فرنسا قبل ذلك الوقت، وهو ما كان قد أكده الفقيه البصري في بعض حواراته الصحافية. كما يحسب لحكومة عبد الله إبراهيم نشر الأمن في مختلف مناطق البلاد، بإقناع حملة السلاح بالتفاوض وإلقاء أسلحتهم. أما على مستوى التربية والتعليم، فقد نجحت هذه الحكومة في العمل على تعريب وتوحيد ودمقرطة التعليم. وقد كانت حقيبة هذه الوزارة ستؤول إلى المهدي بنبركة، لكن تلميذه في الرياضيات، الأمير مولاي الحسن، سيتدخل بقوة لدى والده لمنعه من ذلك، قبل أن تسند بعد ذلك إلى عبد الكريم بن جلون. كما تم في عهدها العمل على وضع اتفاق للتبادل الحر مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في عهد إيزنهاور، ووضع المخطط الخماسي للفترة الزمنية من 1960 إلى 1965، ثم اتخاذ قرار شجاع بصرف كل المتعاقدين الأجانب العاملين في أجهزة الجيش والأمن والمخابرات قبل مستهل يوليوز 1960، وهي الخطوة التي تكون قد أغضبت الأمير مولاي الحسن على اعتبار أنه هو من كان يشرف على هذا القطاع الحساس، وكانت له علاقات قوية مع مسؤوليه، خصوصا أن الأمر شمل إعفاء مساعده الأيمن الكومندار بلير، وهو أحد عملاء المخابرات الأمريكية والإسرائيلية في منتصف مايو 1960 أسبوعا واحدا فقط قبل أن تسقط الحكومة. وكما يقال إن بداخل كل نعمة توجد نقمة أو أكثر، فقد كان قرار الملك محمد الخامس إنهاء حملة الاعتقالات والمحاكمات الموجهة ضد المقاومين، والتقرب أكثر من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، خصوصا بعد حضوره شخصيا احتفالات فاتح ماي 1960، وإلقاء خطاب في المهرجان الذي نظمه الاتحاد المغربي للشغل بالمناسبة بالدار البيضاء، قد زاد في غضب «حكومة الطابور الخامس»، التي رأت أن هذا التقارب يعني أن عبد الله إبراهيم سيواصل مهامه. كما أن هذه الخطوة تزامنت مع إجراء انتخابات الغرف التجارية والصناعية يوم 8 ماي، والتي حقق فيها الاتحاد الوطني فوزا كاملا، إذ فاز مرشحوه في معظم المدن المغربية بأغلبية ساحقة بفضل تجنيد التجار، والصناع الصغار. وهو ما اعتبر دعما قويا لحكومة عبد الله إبراهيم، مما جعل خصومها يتخوفون من أن يعاد نفس الإنجاز الإتحادي في الإنتخابات البلدية والجماعية المقبلة. وإذا كانت حكومة عبد الله إبراهيم قد شكلت تجربة نموذجية خلال فجر الاستقلال، فإن خصومها العديدين حاصروها من كل جانب وأضاعوا على المغرب ما يناهز نصف قرن، دخل فيه مرغما مرحلة التيه الدستوري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.