الإحصائيات تعترف للركراكي بالتميز    اتباتو يتتبع "تمرحل الفيلم الأمازيغي"    الكاميرون تتعادل مع كوت ديفوار        وسط قيود على المساعدات الإنسانية .. الأمطار تغرق خيام النازحين في غزة    روسيا ‬وجمهورية ‬الوهم ‬‮:‬علامة ‬تشوير جيوسياسي‮ ‬للقارة‮!‬    الأقمار الصناعية تكشف تفاصيل جديدة عن البنية المعدنية الخفية في الأطلس الصغير    أخبار الساحة    كرة القدم نص مفتوح على احتمالات متعددة    اليوم بمجمع الأمير مولاي عبد الله .. المنتخب الوطني مطالب بالفوز على زامبيا للبقاء في الرباط وتبديد المخاوف    السودان تحقق فوزا مهما على غينيا الاستوائية في كأس إفريقيا    بحضور فوزي لقجع .. المنتخب المغربي يختتم الاستعداد لمواجهة زامبيا    جبال خنيفرة تلبس "الرداء الأبيض"    صندوق النقد الدولي يدعو المغرب إلى تسريع الإصلاحات الهيكلية دون المساس بشبكات الحماية الاجتماعية. ..أوصى بضرورة تعزيز المنافسة ورفع الإنتاجية والاستثمار في الرأسمال البشري    بوصوف: المخطوطات "رأسمال سيادي"    المهدي النائر.. ريشة تحيي الجدران وتحول الأسطح إلى لوحات تنبض بالجمال    عبد الكبير الركاكنة يتوج بجائزة النجم المغربي 2025    السينما والأدب: الخصوصية.. والحوار الممكن    من واد غيس إلى الجماعات الهشة : عبد الحق أمغار يضع فلاحة الحسيمة تحت مجهر المساءلة البرلمانية    أمن العروي يطيح بسائق سيارة أجرة وبحوزته قرابة 5000 قرص طبي مهرب    ميناء طنجة المتوسط يخطط لتوسعة كبرى لمحطة المسافرين استعدادًا لمونديال 2030    فيضانات تجتاح جنوب إسبانيا بعد تساقطات ليلية كثيفة    تأخر الإشهاد ونقص السيولة يرجئان صرف منحة "الريادة" إلى مطلع 2026    نشرة إنذارية.. زخات رعدية محليا قوية وتساقطات ثلجية وهبات رياح أحيانا قوية يومي الأحد والاثنين    طنجة تتصدر مقاييس التساقطات المطرية بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    سلطات آسفي تدقق في لوائح المتضررين من الفيضانات لتفادي الإقصاء    مداخيل المغرب من صادرات الأفوكادو تتجاوز 300 مليون دولار خلال موسم واحد    بنسليمان.. انتخاب أحمد بلفاطمي كاتبا إقليميا لاتحاد المقاولات والمهن بإجماع المهنيين    تحسن نسبي مرتقب في الأحوال الجوية بالمغرب بعد أيام من الاضطراب الجوي        بورما تجري أول انتخابات عامة منذ الانقلاب العسكري عام 2021    روسيا تعلن إسقاط 25 طائرة مُسيّرة    قرار حكومي يوسّع الاستفادة من منحة "مؤسسات الريادة" ويعدّل منظومة التحفيز    مدفوعة ب"كان 2025″ وانتعاش السوقين المحلية والأوروبية.. أكادير تقترب من استقبال 1.5 مليون سائح مع نهاية السنة    الحلم المغاربي حاضر في الرياضة غائب في السياسة    بعد خمس سنوات من التطبيع.. تقرير يكشف تغلغل إسرائيل في المغرب من الفلاحة إلى الأمن والتعليم والطاقة    عاصمة الرباط تنتظرها بطولات أكبر ..    غموض الموقف المغربي والإماراتي يلفّ رفضاً عربياً وإسلامياً واسعاً لاعتراف إسرائيل ب"أرض الصومال"    عواصف عنيفة تحصد أرواحًا في السويد وتغرق دول الشمال في الظلام    "جمعية هيئات المحامين بالمغرب" ترفض مشروع القانون المتعلق بتنظيم المهنة وتدعو إلى جمع عام استثنائي    الصين تفرض حد أقصى إلزامي لاستهلاك الطاقة للسيارات الكهربائية    أزيد من 2600 مستفيد من قافلة طبية متعددة التخصصات بخنيفرة    مصرع عشريني في اصطدام مروّع بين دراجة نارية وسيارة بطنجة    الخدمة العسكرية .. الفوج ال40 يؤدي القسم بالمركز الثاني لتكوين المجندين بتادلة    كأس إفريقيا .. نيجيريا تفوز على تونس و تعبر إلى دور الثمن    علماء روس يبتكرون مادة مسامية لتسريع شفاء العظام    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    تنديد واسع باعتراف إسرائيل بإقليم انفصالي في الصومال    انطلاق فعاليات مهرجان نسائم التراث في نسخته الثانية بالحسيمة    علماء يبتكرون جهازا يكشف السرطان بدقة عالية    من جلد الحيوان إلى قميص الفريق: كرة القدم بوصفها طوطمية ناعمة    روسيا تبدأ أولى التجارب السريرية للقاح واعد ضد السرطان    الحق في المعلومة حق في القدسية!    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استمرارية الدولة المغربية .. مكونات مادية ومقومات رمزية
نشر في هسبريس يوم 21 - 11 - 2017

هناك شبه اتفاق بين معظم الباحثين على طابع الاستمرارية الذي تميزت به الدولة المغربية عبر تاريخها؛ ذلك أن السمة الأكثر بروزا في مسارها، حسب الأستاذ ساعف؛ هي استمراريتها، وثقل المدى الزمني الطويل الذي تميزت به كدولة قديمة ورثت موارد دائمة من الماضي.
وفي هذا السياق أيضا يؤكد محمد أركون أن الدولة المغربية عرفت أطول استمرارية مقارنة بدول أخرى في منطقة شمال إفريقيا. فبخلاف الدولة الجزائرية التي عرفت عدة تقطعات في الزمان والمكان، تمتعت الدولة المغربية باستمرارية متواصلة سواء في مرحلة ما قبل الفتح الإسلامي أو في المرحلة الإسلامية. وهكذا يشير أركون إلى أن الدولة المغربية ذات الطابع الإسلامي، وعلى غرار نظيرتها التونسية، تميزت بأطول استمرارية.
ويمكن أن نفسر استمرارية الدولة المغربية بعدة عوامل ساهمت في تكريسها؛ كما يمكن أن نرصد هذه الاستمرارية عبر عدة مظاهر تجسدت في عوامل داخلية وأخرى خارجية.
- العوامل الخارجية
تتمثل هذه العوامل في انتماء المغرب إلى المنظومة المتوسطية وتواجده على طريق تجاري دولي:
- الانتماء إلى المنظومة المتوسطية
يعتبر المغرب، من خلال شريطه الممتد من الحسيمة إلى طنجة، أحد بلدان البحر الأبيض المتوسط. وهكذا يرى المؤرخ شارل أندريه جوليان أن السواحل المغربية شاركت، منذ العصور القديمة، في النشاط المتوسطي، كما ارتبط تاريخ المغرب، بشكل وثيق، بتاريخ إسبانيا في القرون الوسطى. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن تاريخ المغرب الحديث تأثر بشكل كبير بكل الصراعات والمستجدات التي عرفتها أوربا المتوسطية، سواء كان ذلك من خلال حروب إسبانيا والبرتغال أو حروب إسبانيا مع العثمانيين في إطار الهيمنة على منطقة البحر الأبيض المتوسط، أو الصراع الذي كان دائرا بين فرنسا وانجلترا للسيطرة على المنطقة.
ومن المعلوم أن منطقة البحر الأبيض المتوسط اعتبرت منذ القديم مهد عدة حضارات، وشهدت نشأة عدة دول عريقة، كدولة الفراعنة في مصر، والدويلات الفينيقية، والدويلات اليونانية... كما عرفت توسع عدة إمبراطوريات، مثل الإمبراطورية الرومانية أو الإمبراطورية القرطاجية.
وقد كانت السمة الرئيسية التي ميزت مختلف هذه الدول والإمبراطوريات هي قدم نشأتها وامتدادها الزمني المكثف. ويمكن أن نرجع سبب هذا الامتداد والاستمرارية إلى الطبيعة الساخنة لهذه المنطقة؛ فنظرا لأن منطقة البحر الأبيض المتوسط كانت دائما منطقة صراع حول النفوذ، فقد كان من المفروض أن يكون لكل شعب دولة تحميه ضد كل الهجمات الأجنبية، وخصوصا تلك القادمة من البحر. فالبحر الأبيض المتوسط إذا كان يشكل لكل شعب من شعوب المتوسط مورد رزق ومنفذا تجاريا؛ وقد كان في الوقت نفسه يشكل مصدر خطر لأنه كان معبرا للاحتلال ومنفذا للهجمات الأجنبية الآتية من البحر.
وهكذا يشير عبد القادر جغلول إلى أن "الظروف التي أحاطت بمنطقة البحر المتوسط، خصوصا الصراع الروماني - القرطاجي أفضت إلى تكوين الدولة البربرية في القرن الثالث ق م. بما فيها الدولة المغربية".
لكن إذا كانت هذه الظروف ساهمت بشكل كبير في نشأة الدولة المغربية؛ فإنها ساهمت منطقيا في استمراريتها. إذ إن هذه الظروف، والتي تمثلت في الصراع على الهيمنة على البحر الأبيض المتوسط، بقيت تفعل باستمرار. فبانهيار روما، ظهرت قوى إقليمية أخرى حاولت السيطرة على المنطقة، مثل بيزنطة، ثم الأمويين وغيرهم.
وقد كان لهذا الصراع المحتدم والمتواصل في منطقة البحر المتوسط تأثير كبير على تطور الدولة المغربية، نتيجة للموقع الإستراتيجي الذي يحتله المغرب في هذه المنطقة، والذي يبرز من خلال:
- إشرافه على مضيق جبل طارق الذي يعتبر البوابة الرئيسية للدخول أو الخروج من المنطقة.
- قربه الكبير من الضفة الأوربية من خلال جواره لإسبانيا والجزيرة الخضراء التي تعتبر القاعدة الأمامية لأي تدخل في أوربا.
- توفره على شريط ساحلي على المحيط الأطلسي.
ونتيجة لهذا الموقع، وجدت الدولة المغربية نفسها مشاركة في كل الأحداث السياسية التي عرفتها منطقة البحر المتوسط؛ إذ شارك الملوك المغاربة القدامى في الصراع الذي كان دائرا بين روما وقرطاجة، وكذا في مواجهة التوسع الروماني، وذلك من خلال مساندة يوغرطة؛ ثم ساندوا روما في قضائها على هذا الأخير؛ كما دخلوا حلبة الصراع الذي دار بين قيصر وخصومه على السلطة.
كما شكل المغرب أيضا محطة عبور للوندال في حربهم ضد روما؛ في حين كان أول معقل انطلقت منه الجيوش الأموية لاحتلال إسبانيا...
وهكذا فإن وجود المغرب في منطقة ساخنة سياسيا، وتواجده في حلبة الصراع بين القوى الإقليمية، كان يفرض تواجد دولة مغربية باستمرار؛ بحيث يمكنها أن تخضع للاحتلال أو للحماية أو تتعرض للضعف، ولكنها لم تتلاش أبدا.
ومن خلال قراءة متأنية لتاريخ المغرب، سنجد أن الدولة المغربية بقيت قائمة حتى بعدما بسطت روما سيطرتها على مختلف مناطق شمال إفريقيا، وقضت على المملكة النوميدية. بل إن القضاء على هذه المملكة جعل المملكة الموريتانية تحصل على بعض أجزاء هذه الأخيرة مقابل مساندة بوكوس لروما في حربها ضد يوغرطة. وقد استمرت المملكة الموريتانية قائمة حتى بعد إنشاء بعض المستعمرات الرومانية في المغرب، مجسدة من خلال حكم يوبا الثاني وابنه بطليموس.
وإذا كان اغتيال كاليكولا لبطليموس يمثل فقدان الدولة المغربية لسيادتها واستقلالها؛ فإن هذا لم يعن اختفاء الدولة المغربية. بدليل أن تمرد أيدمون واضطرار روما إلى وضع حواجز (الليمس)) لتأمين المناطق المستعمرة؛ وكذا التحالف مع بعض رؤساء القبائل المغربية (1)، كان يؤكد أن التوسع الروماني كان احتلالا، والاحتلال يكون دائما لدولة ما. فهذا الاحتلال، الذي وإن شكل عرقلة لتوحيد سياسي، كما يقول بعض الباحثين، فإنه لم يقض على الوجود السياسي للدولة المغربية. فبحلول القرن الثالث الميلادي بدأت روما تتخلى عن مواقعها بالتدريج لينتهي ذلك بمغادرة الحاكم الروماني لمدينة وليلي، وليلي التي كانت تجسد دائما استمرارية الدولة المغربية. فقد أشار كورتوا إلى أن مغادرة الحاكم الروماني لمدينة وليلي كانت تعني ترك السلطة لملوك بقيوة "الذين قاموا بلا شك بممارسة السلطة في كل مناطق المملكة الطنجية القديمة".
كما يؤكد كورتوا أن الفترة التي تزامنت مع الاكتساح الوندالي شهدت ظهور عدة ممالك، سواء في الجزائر أو المغرب؛ خصوصا أن هذا الأخير كان يبتعد كثيرا عن مقر الدولة الوندالية (3). لذا فإن الفاتح العربي عندما دخل المغرب واجه مقاومة مستمرة كانت تحركها أساسا الفكرة الاستقلالية، والتي كانت انعكاسا لاستمرارية الدولة بالمغرب.
- الارتباط بالتجارة الدولية
لقد ارتبطت استمرارية الدولة بالمغرب بالتجارة الدولية التي تمركزت بشكل خاص وحتى حدود القرن 16 م في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وهكذا يشير بيران إلى أن مركز التجارة الدولية تحول ابتداء من القرن الثالث ق م نحو غرب البحر الأبيض المتوسط، ما جعل من هذه المنطقة عنصرا رئيسيا في الساحة الدولية في مختلف الميادين البحرية والاقتصادية والسياسية. وتواجد المغرب في هذه المنطقة جعل الدولة المغربية تستفيد من الفائض الذي كانت تدره عليها وساطتها التجارية.
وقد ساهمت عدة عوامل في لعب الدولة المغربية دور الوسيط التجاري بين أوربا وإفريقيا السوداء والمشرق العربي، تمثلت على الخصوص في ما يلي:
- توفر المغرب على واجهتين: واجهة بحرية وواجهة صحراوية؛ الواجهة البحرية كانت تساعد على التعامل مع أوربا من خلال تسهيل عملية تبادل مواد إستراتيجية كانت أوربا في حاجة دائمة لها، وهي العبيد والملح والذهب؛ في حين شكل المغرب من خلال واجهته الصحراوية محطة تجارية لنقل بعض المصنوعات الأوربية مثل الأقمشة والأسلحة.
- توفر المغرب على بنية زراعية ساعدت على إنتاج بعض المواد الفلاحية مثل الحبوب والزيتون، أو منتجات بحرية كانت أوربا في حاجة ماسة إليها، بالإضافة إلى الجلود والصوف والدواب.
- توفر المغرب على سواحل ممتدة من الشريط المتوسطي إلى السواحل الأطلسية التي كان من الضروري الرسو، فيها نظرا لطبيعة التجهيزات البحرية التي كانت غير متطورة آنذاك. فتوقف الفينيقيين ببعض الموانئ المغربية وإنشاء القرطاجيين لمحطات على السواحل المغربية، وتعرض هذه الأخيرة للاحتلال الأيبيري، يؤكد أهمية هذه السواحل في التجارة الدولية المتوسطية.
ولم تكن استمرارية الدولة بالمغرب رهينة فقط بارتباطه بالتجارة المتوسطية؛ بل نتيجة أيضا لتوفر المغرب على ثلاثة منافذ تجارية:
- النافذة المتوسطية
- النافذة الأطلسية
- النافذة الصحراوية
وهذه النوافذ التجارية الثلاث مكنت الدولة المغربية من أن تحافظ على علاقاتها التجارية الخارجية، وأن تحصل على الفائض الذي يسمح لها بالبقاء والاستمرار. فالدولة المغربية كانت عبارة عن دولة "بثلاث رئات"؛ كلما عطلت رئة إلا وتنفست من رئة أخرى. وهكذا فعندما احتل الرومان المنطقة الشمالية للمغرب تم الانكفاء نحو الجنوب والتبادل مع دول جنوب الصحراء. وعندما احتلت إسبانيا الشريط المتوسطي، سبتة ومليلية، واحتل البرتغال السواحل الأطلسية بقيت الدولة المغربية تستمد مواردها من تجارة القوافل. ولعل هذا المعطى هو الذي يفسر إشارة محمد أركون إلى أن الدولة المغربية تمتعت بأطول استمرارية في منطقة شمال إفريقيا. إذ إن كل الدول التي ظهرت في هذه المنطقة لم تكن تتوفر سوى على واجهتين (متوسطية وصحراوية)، مثل الدولة التونسية أو الدولة الجزائرية؛ بل إن الواجهة المتوسطية التي كانت تعتبر الرئة الرئيسية لهاتين الدولتين كانت غالبا ما تعطل بفعل الهجومات البحرية الأجنبية (روما، بزنطة، الحروب الصليبية) أو الاكتساحات البدوية، مثل نزوح بني هلال وبني سليم إلى المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك فإن تأثير هذه الاكتساحات كان بليغا بالنسبة لهاتين الدولتين؛ فالاحتلال الروماني اتخذ طابعا استئصاليا بالنسبة للدولة التونسية؛ حيث قامت روما بإحراق قرطاج والقضاء على مملكة ماسينسا، بينما قام بنو هلال وبنو سليم بتخريب الدولة التونسية والجزائرية، وذلك بالقضاء على مدنها الساحلية؛
في حين أن الاحتلالات التي توالت على المغرب لم تتخذ هذا الطابع الاستئصالي، نظرا لأنها كانت تصل
وقد فقدت الكثير من زخمها وعنفوانها نتيجة لتواجد هذا البلد في أقصى المنطقة. ومما كرس أيضا استمرارية الدولة بالمغرب تمكنها من الرد على الهجمات الأجنبية وقدرتها على التوسع في المنطقة، سواء في عهد بوكوس أو في عهد يوسف بن تاشفين أو في عهد عبد المومن بن على الكومي...وذلك من خلال تحول الدولة المغربية إلى إمبراطورية لعبت دورا حاسما وتاريخيا في المنطقة.
ب - العوامل الداخلية
تفاعلت عدة عوامل داخلية لتكريس استمرارية الدولة المغربية؛ إذ لعبت بالتوازي مع العوامل الخارجية المذكورة سالفا دورا حاسما في الحفاظ على هذه الاستمرارية.
ويمكن تحديد هذه العوامل في:
- الحدود التاريخية
تجدر الإشارة إلى أن المغرب توفر على حدود طبيعية قارة وواضحة؛ بحيث وجد نفسه محاطا بساحلين بحريين وصحراء في الجنوب ونهر ملوية في الشرق؛ ما جعل الدولة المغربية تحصل على حدود سياسية في وقت مبكر. ومن المعروف أن الحدود السياسية شكلت عنصرا رئيسيا في بلورة الكيانات السياسية والحفاظ على استمراريتها؛ لذا فالدولة المغربية، انطلاقا من هذه الحدود، استطاعت أن تبلور هويتها، وذلك من خلال الدفاع عن حدودها. فنهر ملوية كان دائما الحد الفاصل الذي كان يعتبر تجاوزه انتهاكا لحرمة الدولة. ومما يعزز ذلك تبرير بوكوس محاربته للجيوش الرومانية بأنه دفاع عن حدود مملكته.
- التنظيم القبلي
قال جغلول "إننا لا نستطيع فهم...تقلبات الدويلات المغربية بمعزل عن علاقاتها بالنظام القبلي". فطبيعة النظام القبلي في العالم العربي، ومنطقة شمال إفريقيا على الخصوص، أثرت بلا شك على سيرورة الدول، وبالأخص على استمراريتها. وهكذا فالنظام القبلي في المغرب تميز بعدة خصائص ساهمت بشكل كبير في استمرارية الدولة المغربية. وتتمثل هذه الخصائص في:
- وجود اتحادات قبلية كبرى مثل مصمودة وصنهاجة وزناتة.
- التجانس المعيشي والفكري لهذه الاتحادات.
- تمركز هذه الاتحادات في الطريق التجارية الممتدة من جنوب الصحراء إلى منافذ البحر المتوسط.
هذه الخصائص جعلت هذا النظام القبلي لا يتعارض مع استمرارية الدولة. فتطعيم الاتحادات القبلية للدولة بقيادات سياسية وعسكرية، ومصلحة هذه الاتحادات في تأمين الطرق التجارية، بالإضافة إلى الامتيازات السياسية التي كانت تحصل عليها من الدولة، جعلت كل الاتحادات القبلية تتنافس في ما بينها لضمان استمرارية الدولة بالمغرب. وقد فسر جغلول هذه الظاهرة بقوله:
"إن الحضور العام للتنظيم القبلي وراء عملية البناء الحكومي يدل على أن القبيلة والدولة بالرغم من تناقضهما ليستا متنافيتين. وإذا كان هناك حقا اختلاف فتجدر الإشارة إلى أن التنظيم القبلي على مستوى معين من تطوره ...يحمل مشروعا حكوميا".
وبالفعل، فإن تاريخ المغرب يشهد أن كل العصبيات القبلية التي تداولت على حكمه كانت عصبيات بانية للدولة وليست محطمة لها. فكل عصبية كانت تسعى بالأساس إلى إخضاع العصبيات الأخرى، وذلك من أجل الوصول إلى السلطة والتحكم في دواليب الدولة. ومن ثمة قامت الدولة المغربية منذ نشأتها على أساس قبلي. ورغم أن الأساس كان مصدر عدم استقرار للدولة إلا أنه لم يثبت قط أنه كان عنصر من عناصر تلاشيها أو اضمحلالها.
وهناك عامل آخر ساعد أيضا على ضمان هذه الاستمرارية؛ ويتمثل في التنافس القبلي المتجدد؛ فبمجرد ما تضعف عصبية وتشرف على الهرم كانت هناك عصبية أخرى في حالة ترقب، تقوم بالإجهاز على العصبية الآيلة للسقوط لتحل محلها وتمنح بذلك دما جديدا للدولة. وقد عبر محمد إقبال عن هذه الصورة من خلال إشارته إلى أن "التاريخ علمنا أن الدولة التي قد تضعف من خلال تلويناتها وتجسيداتها المختلفة والمتوالية، تتجدد باستمرار بفعل القوة المحركة للعصبية".
- البنية الاقتصادية الداخلية
أشار سمير أمين إلى أن الحياة الزراعية في مختلف الأقطار العربية، باستثناء مصر، "بقيت عارضة، والتقنيات الزراعية للإنتاج قليلة التطور، وإنتاجية العمل الزراعي ضعيفة، ومستوى حياة جمهور المزارعين قريبا من الكفاف". لكن يمكن أن نوسع هذا الاستثناء ليشمل بعض بلدان شمال إفريقيا كتونس والمغرب. فهذا الأخير توفر دائما على موارد فلاحية، من مناخ متوسطي وموارد مائية، وسهول صالحة للزراعة، أهلته لكي يتمتع ببنية زراعية ورعوية ملائمة. وقد سمحت هذه البنية بأن تحصل الدولة المغربية على موارد، وإن لم تكن دائما كافية، إلا أنها كانت تساهم في الكثير من الأحيان في الحفاظ على استمراريتها. ويتجلى ذلك على الخصوص في أنه في الوقت الذي تشح الموارد المالية الخارجية المستمدة من التبادل التجاري والغزو، فإن الدولة المغربية كانت تستطيع الحفاظ على استمراريتها من خلال الاقتصار على الموارد المحصلة من النشاط الفلاحي. فالنشاط الفلاحي لعب دورا مهما في تأمين موارد الدولة، ليس فقط من خلال تزويدها بالضرائب التي غالبا ما كانت تتخذ شكلا عينيا، وإنما بضمان استمرارية الكثير من المدن التي كانت مركزا للتجمعات الحرفية وحلقة من حلقات التبادل التجاري، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. بالإضافة إلى ذلك فالبوادي المغربية ساهمت أيضا في تزويد الدولة المغربية بالخيول والرجال: الدعامتان الرئيسيتان لتكوين الأداة العسكرية التي تضمن للدولة هيبتها واستمراريتها.
كما أشار شارل أندريه جوليان إلى أن هناك عاملا آخر ساعد على استمرارية الدولة بالمغرب، يتمثل على الخصوص في تشبث السكان المستقرين بالسهول بنمط عيشهم، وذلك من خلال مواجهتهم لكل محاولات البدو اكتساح هذه المناطق، محتمين بجبال الأطلس التي شكلت سدا منيعا أمام هذه الاكتساحات. وقد ساهم تشبث هؤلاء السكان بنمط عيشهم واستقرارهم في السهول في "الحفاظ على استمرارية سلطة استطاعت بسهولة فرض طاعتها". فالمواجهات المستمرة بين البدو الرحل والمزارعين المستقرين أسفرت، وبخلاف ما وقع في الجزائر، عن استمرارية الدولة المغربية.
2 - المظاهر
تتجسد مظاهر استمرارية الدولة في المغرب من خلال مظهرين رئيسين: مظهر مادي ومظهر رمزي.
- المظهر المادي
من أهم الخصائص التي تميزت بها الدولة بالمغرب توفرها على عدة عواصم سياسية، ولم ترتبط بعاصمة مركزية شأن الكثير من الدول المتوسطية. ويرجع ذلك إلى عوامل طبيعية (كالتمفصل الجغرافي وصعوبة المواصلات وغياب المسالك...) وعوامل سياسية تتجسد في صعوبة توحيد وضبط المجال المغربي واختيارات الأسر الحاكمة.
غير أن هذا المعطي سمح بتكريس أكبر لاستمرارية الدولة بالمغرب؛ بحيث ساعد على نشر إشعاعها السياسي في مختلف أنحاء التراب الوطني، ووقاها أيضا من كل استئصال أجنبي. فغالبا ما كان الفاتحون يقومون بالقضاء على دول ما من خلال إحراق أو هدم عواصمها، في حين توفرت للسلطة المركزية إمكانية الانتقال من عاصمة لأخرى.
وبالتالي فإن الاحتلالات الأجنبية التي توالت على المغرب رغم أنها كانت تضعف من قوة الدولة وقد تخفي بعض معالمها، إلا أنهه لم يتأت لها القضاء عليها نهائيا. وهكذا أشار أحد الباحثين إلى هذه الظاهرة بقوله:
"لا يجب الاعتقاد بأنه لم يتبق من المرحلة القديمة، بعد مجيء العرب، إلا آثار وذكريات، فالمدن
الموريتانية...قد استمرت قائمة، بدليل أن طنجة تحولت إلى مقر للولاة الأمويين في المغرب ووليلي
عاصمة للمولى إدريس".
وفي السياق نفسه يؤكد المؤرخ أندريه جوليان أن هاتين المدينتين استمرتا في لعب دور سياسي عبر مختلف الحقب التاريخية:
- فطنجة، التي كانت محطة تجارية فينيقية، بقيت تشكل أهم مدينة في موريتانيا إلى حدود تمردها على الملك بوكيد. كما تحولت إلى عاصمة لموريتانيا الطنجية في العهد الروماني.
- أما فاس فقد ورثت الدور السياسي لوليلي، نظرا لتوفرها على موارد مائية ووضعها الجغرافي، وكذا لتشكيلها محطة تتوسط الطريق نحو مراكش والرباط وطنجة ومضيق تازة.
وهكذا شكلت هذه المدينة لوحدها "الملخص السياسي" للدولة بالمغرب. فقد كانت العاصمة السياسية والعلمية والدينية والاقتصادية.
- وإذا شكلت فاس عاصمة لشمال المغرب فقد شكلت مراكش عاصمة الجنوب، بعدما أسسسها المرابطون، ثم استقر فيها بعدهم ملوك من أسر حاكمة أخرى.
- المظهر الرمزي
يشير كريستين بريز إلى أن النقد يقوم بثلاث وظائف سياسية؛ فهو تجسيد للحكم وأداة لوجوده ورمز لاستمراريته. وبالفعل فقد شكلت النقود في المغرب رمز استمرارية الدولة في المغربية وعنصرا من عناصر تكوينها وأحد وسائل تأكيد هويتها. وهكذا، فمن خلال النقود المغربية التي تم اكتشافها إلى حد الآن، يمكن رصد مختلف التطورات التي عرفتها الدولة بالمغرب، سواء في مرحلة تبلوها أو في مرحلة ترسخها.
- النقد ورمزية تبلور الدولة
أشار توفنو إلى أنه تم العثور على عدة قطع نقدية بوليلي تحمل اسم الملك المغربي بوكوس. وفي السياق نفسه يضيف كاني أن كل النقود التي ضربت في الحقبة الموريتانية، وبالأخص في الفترة التي تعاقبت فيها أسرة بوكوس (118 إلى 33 ق م) إلى حدود الفترة التي تولى فيها بطليموس (40-23 بعد الميلاد)، كانت تحمل بالإضافة إلى بعض المعالم الطبيعية والدينية صورا للملوك الذي تعاقبوا في هذه الفترة. وألمح كاني إلى أن هذه النقود تحمل عدة دلالات سياسية تتجلى في:
- التعبير عن إرادة السلطة القائمة في تأكيد وجودها.
- التأكيد على وجود استمرارية للحكم.
- تأكيد السلطة على تحكمها في مجالها السياسي.
كما عبرت هذه النقود عن الفترة السياسية التي توسع فيها الحكم الروماني في المغرب وطبيعة العلاقات التي كانت بين الملوك المغاربة والإمبراطورية الرومانية . كما عكست هذه النقود مختلف المحاولات التي قام بها جوبا الثاني لتوحيد المغرب، وذلك من خلال العثور على عدة قطع نقدية تحمل اسم هذا الملك في مختلف مدن المغرب القديم.
- النقد ورمزية ترسخ الدولة
لقد أصبحت النقود في المرحلة الإسلامية أداة رئيسية لترسيخ السلطة وتجسيد طموحها في الاستقلال ومحاولة توحيد المجال المغربي.
وهكذا كانت النقود التي ضربت من طرف الأدراسة لا تحمل اسم الخليفة في المشرق؛ بل كانت تحمل أسماء الأمراء الأدراسة دلالة عن استقلال الدولة المغربية عن مركز الخلافة.
كما أن النقود التي تم ضربها من طرف المرابطين والموحدين والمرينيين كلها كانت تعبر عن الإرادة في توحيد المغرب وإخضاعه لسلطة سياسية وحيدة. وقد تجلى ذلك من خلال الدنانير المرابطية التي كانت تشدد على ضرورة التشبث بالمذهب المالكي الذي أصبح المذهب الرسمي للدولة.
كما أن النقود التي ضربت من طرف الموحدين شددت هي أيضا على هذا المنحى؛ ليتم تكريس ذلك من طرف المرينيين الذين أكدوا من خلال النقود التي كانت تضرب في عهدهم على ضرورة الالتزام بالقرآن كدستور للدولة. وهكذا كانت تكتب في النقود المرينية عبارة "القرآن هو إمامنا" "القرآن هو كلام الله".
وقد سار الوطاسيون ومختلف الأسر الحاكمة التي تعاقبت بعدهم على النهج نفسه للتعبير عن استمرارية الدولة من خلال النقود المضروبة في دور السكة التي كانت تحت إشراف الأمراء والسلاطين والملوك المغاربة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.