ألف درهم تساوي 8000 درهم.. عملية نصب كبرى تتربص بالطنجاويين    جبريل في بلا قيود:الغرب تجاهل السودان بسبب تسيسه للوضع الإنساني    لاعبو بركان يتدربون في المطار بالجزائر    هشام العلوي: استفحال اقتصاد الريع في المغرب ناتج عن هشاشة سيادة القانون والنظام يخشى الإصلاح الاقتصادي الجوهري (فيديو)    دراسات لإنجاز "كورنيش" بشاطئ سواني    أمن مراكش يوقف شقيقين بشبهة النصب    ندوة تلامس السياق في الكتابات الصوفية    بانتصار ساحق على ليبيا.. المغرب يبلغ نهائي كأس إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة ويضمن التأهل للمونديال    نقابة: نسبة إضراب موظفي كتابة الضبط في دائرة آسفي فاقت 89% رغم تعرضهم للتهديدات    إعلام عبري.. نتنياهو صرخ في وجه وزيرة خارجية ألمانيا: نحن لسنا مثل النازيين الذين أنتجوا صورًا مزيفة لواقع مصطنع    المغرب يسعى لاستقطاب مليون سائح أمريكي سنويا    إطلاق الرصاص لتوقيف شخص عرّض أمن المواطنين وسلامة موظفي الشرطة لاعتداء جدي ووشيك باستعمال السلاح الأبيض    المكسيك – موجة حر.. ضربات الشمس تتسبب في وفاة شخص وإصابة العشرات    طقس السبت.. أمطار رعدية ورياح قوية بهذه المناطق من المغرب    ما الذي قاله هشام الدكيك عقب تأهل المغرب المستحق إلى كأس العالم؟    طلبة الصيدلة يرفضون "السنة البيضاء"    الجدارمية د گرسيف حجزوا 800 قرعة ديال الشراب فدار گراب بمنطقة حرشة غراس    العرض السياحي بإقليم وزان يتعزز بافتتاح وحدة فندقية مصنفة في فئة 4 نجوم    مسؤول بلجيكي : المغرب وبلجيكا يوحدهما ماض وحاضر ومستقبل مشترك    وزير الفلاحة المالي يشيد بتقدم المغرب في تدبير المياه والسدود    صلاح السعدني .. رحيل "عمدة الفن المصري"    المغرب وروسيا يعززان التعاون القضائي بتوقيع مذكرة تفاهم    وزارة التجهيز والماء تهيب بمستعملي الطرق توخي الحيطة والحذر بسبب هبوب رياح قوية وتطاير الغبار    الأمثال العامية بتطوان... (577)    تسجيل حالة وفاة و11 إصابات جديدة بفيروس كورونا خلال الأسبوع الماضي    المعرض الدولي للكتاب.. بنسعيد: نعمل على ملائمة أسعار الكتاب مع جيوب المغاربة    ها أول تعليق رسمي ديال إيران على "الهجوم الإسرائيلي"    خاص..الاتحاد ربح الحركة فرئاسة لجن العدل والتشريع وها علاش الاغلبية غاتصوت على باعزيز    مؤشر ثقة الأسر المغربية في وضعها المالي يتحسن.. وآراء متشائمة في القدرة على الادخار    "لارام" و"سافران" تعززان شراكتهما في صيانة محركات الطائرات    تعرض الدولي المغربي نايف أكرد للإصابة    "إعلان الرباط" يدعو إلى تحسين إدارة تدفقات الهجرة بإفريقيا    مجلس النواب يعقد جلسة لاستكمال هياكله    ارتفاع كبير في أسعار النفط والذهب عقب الهجوم على إيران    بورصة الدار البيضاء تفتتح التداولات بارتفاع    موعد الجولة ال27 من البطولة ومؤجل الكأس    طوق أمني حول قنصلية إيران في باريس    المكتب التنفيذي ل"الكاف" يجدد دعمه لملف ترشيح المغرب وإسبانيا والبرتغال لتنظيم مونديال 2030    بسبب فيتو أمريكي: مجلس الأمن يفشل في إقرار العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة    "ميتا" طلقات مساعد الذكاء الاصطناعي المجاني فمنصاتها للتواصل الاجتماعي    صورة تجمع بين "ديزي دروس" وطوطو"..هل هي بداية تعاون فني بينهما    منظمة الصحة تعتمد لقاحا فمويا جديدا ضد الكوليرا    التراث المغربي بين النص القانوني والواقع    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    باستثناء الزيادة.. نقابي يستبعد توصل رجال ونساء التعليم بمستحقاتهم نهاية أبريل    السودان..تسجيل 391 حالة وفاة بسبب الاصابة بمرضي الكوليرا وحمى الضنك    أخْطر المُسَيَّرات من البشر !    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    مهرجان خريبكة الدولي يسائل الجمالية في السينما الإفريقية    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطغاة المهرجون
نشر في لكم يوم 05 - 07 - 2020

أدت جائحة كورونا إلى بروز شكل جديد من الاستبداد على الصعيد العالمي، وما فتئت إمبراطورية هذا الاستبداد تتوسع في الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل والفلبين والمملكة المتحدة وإيطاليا.. وإلى حد الآن في فرنسا لم يتجسد هذا الاستبداد في شخصية سياسية، لكنهم كُثر أولئك الذين يستشعرون نمو أجنحتم إلى درجة أصبحت تثير قلق الإليزيه.
بعد وفاة جورج فلويد، لم يكن كاتب العمود المحافظ في صحيفة "الواشنطن بوست" مخطئا في عباراته ضد ترامب عندما كتب، "الشخص الذي انتخب في 2016 من أجل تطبيق القوانين بأمانة"، قال في 28 يوليوز 2017 لرجال الشرطة: "رجاء! لا تكونوا لطفاء جدا أثناء الاعتقالات"، لكن سرعان ما يستحقق أمله في ظرف زمني لا يتعدى ثمانية دقائق و46 ثانية على رصيف "مينيابوليس".

جورج ويل، الحائز على جائزة بيليتزر للتعلق السياسي، هو واحد من أشهر كتاب الأعمدة في التيار المحافظ. لم يخف منذ سنة 2016 "اشمئزازه" من الطريقة التي أذعن بها الحزب لرغبة ترامب في الترشح. لكن مقاله ذهب أبعد من ذلك، فهو يدعو إلى الإطاحة بترامب في الانتخابات المزمع تنظيمها خلال نونبر المقبل، كما توجه إلى الجمهوريين في الكونغرس بالقول: "هؤلاء أعضاء مجلس الشيوخ الذين لازالوا يرقصون مرحا، يحبون المداعبة مثل الكلاب".
لدى المحافظين الجدد أسباب وجيهة لإلقاء اللوم على ترامب، فهو الذي استبعدهم من السلطة بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض، لكنهم ليسوا الوحيدين. لقد أعلن الرئيس السابق جورج بوش أنه لن يدلي بصوته في انتخابات نونبر. وقرر كولين باول التصويت لصالح جو بايدن.
حسب جورج ويل، تمادى ترامب في أساليبه الاستفزازية منذ انتخابه رئيسا، مستفيدا من تكنولوجيا التواصل الحديثة. وقد أدت هذه الاستفزازات إلى "احتدام النقاش بشكل عنيف جدا، إلى درجة أن الانتقال إلى مرحلة الفعل أصبح غير ذي أهمية بالنسبة للأفراد المضطربين مثله". هكذا يقوم دونالد ترامب بترسيخ نبرة المجتمع الأمريكي، الذي يبدو للأسف كشمعة لينة يترك عليها الرؤساء بصماتهم". ويخلص جورج ويل قائلا: "أثبت هذا الملك "لير" السافل أن عبارة (المهرج الشرير) ليست متناقضة."
من خلال الجمع بين هذين المصطلحين المتناقضين "المهرج الشرير" يسلط كاتب الافتتاحية المحافظ الضوء على الطابع الانفصامي في سلطة ترامب، التي مازالت موضع انتقاد لاذع من طرف خصومه. فإذ كان التهريج ينطوي على الكوميديا والهزل، فإن تهريج ترامب يضمر الشر، من واقع أنه يستخدم أساليب سخيفة، كما يؤدي دورا شبيها بقائد الأوركسترا عندما يلعب على وتر مشاعر الاستياء لدى الحشود، ويتسبب في إيقاظ شياطين الفتنة النائمة في نفوس المتحيزين على أساس الجنس والعنصريين والمعاديين للسامية، الذين تتوسع لائحة ضحاياهم من "بيتسبرغ" إلى"إل باسو" انتهاء ب "جورج فلويد".
مع دونالد ترامب لم يعد الأمر يتعلق بحكم في إطاره الديمقراطي، بل أضحى من المفترض أن مصداقيته تتجه نحو الحضيض. فالرئيس هو بطل الشك الذي بنى إستراتيجية قائمة على مفارقة: إرساء مصداقية "خطابه" على "النظام" الفاقد للمصداقية، ثم يقامر على فقدان المصداقية العامة وتفاقم آثارها. والخطير في هذه المقامرة هي كونها تحقيقا للذات. ومثلما يرى العديد من خبراء الاقتصاد فإن تكتيك المضاربة نزولا هو السبب الرئيسي لتراجع سوق الأسهم، وهي نفس أزمة المضاربة في الساحة السياسية.
هذا هو نبض سلطته المهيمنة التي لم تعد تُفرض من خلال قصص ذات مصداقية بل حلت محلها النكات التي تضرب في مصداقية جميع أشكال السلطة الاقتصادية والاعلامية والسياسية والطبية، بعد أن حلت السخافة محل القصة والكرنفال والرومانسية في غزو القلوب والعقول.
حسب عالم اللسانيات الروسي ميخائيل باختين كان الكرنفال في العصور الوسطى أكثر من مجرد احتفال فولكلوري، إنه أحد أقوى أشكال التعبير عن الثقافة الشعبية، خاصة في بعدها الثوري. في كتابه "فرنسوا رابيليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وعصر النهضة" يحلل باختين روح الكرنفال كأداة للإطاحة بالتسلسل الهرمي والقيم: بين السلطة والشعب والنبلاء والتافهين، بين الأعلى والأسفل، وبين الأسلوب الأنيق ولغة الشعب الفظة.
سرعان ما يكتمل هذا التعبير عندما يتم تتويج ملك الكرنفال ليحل محل السلطة الحاكمة. وقد كتب بختين أن "شخصية رابيليه تنطوي على خطاب وقناع المهرج خلال العصور الوسطى، وأشكال الاحتفال الشعبي، وحماس الباسوش (أوبرا كوميدية)، كما تنطوي في نفس الوقت على الأفكار الديمقراطية التي استنكرت وسخرت من كلام وإيماءات مهرجي الكرنفال، وترتبط هذه الأفكار بالمعرفة الإنسانية والعلوم والممارسة الطبية والخبرة السياسية وجميع معارف الإنسان التي تزيح اللثام عن مشاكل وأسرار السياسة الدولية العليا في عصره."
الكرنفال الفاسد
إن الترامبية (نسبة إلى ترامب) هي شكل من أشكال الكرنفال الفاسد، حيث يقوم من الأعلى بتثبيت قيم السخافة على قمة السلطة، ويرسخ شرعيتها على الشبكات الاجتماعية وتلفزيون الواقع. هذا الأخير الذي يقوم الثناء على الترامبية ويطبل لها، ويقلب الوضع بين الأعلى والأدنى، والنبلاء والتافهين، والأسلوب الأنيق والفض، والمقدس والمدنس، ويرفض القواعد والتسلسلات الهرمية التي أقيمت بين السلطة والضعفاء، ويزدري الأسلوب الراقي والأخلاق الحميدة، ويمدح السخافة والابتذال.
يضع باختين خطا فاصلا بين الكرنفال الديمقراطي والمعرفة الإنسانية، عندما يتحدى ترامب النظام الديمقراطي من أجل السخرية منه وليس من أجل إصلاحه أو تغييره من خلال حضوره الدائم على منصة تويتر مثل ملك الكرنفال الذي يدعي لنفسه الحق في قول كل شيء ويقلل من شأن جميع أشكال السلطة. هذا الرجل سخر من منصبه الرئاسي بمجرد انتخابه من خلال حماقاته وتقلباته المزاجية ومواقفه السخيفة. وقد وصفه نعوم تشومسكي ذات مرة بأنه "مهرج يستطيع أن يجد له مكانا في السيرك."
كان موسيليني يمارس التزلج وهو عاري الصدر، أو هتلر الذي حبس نفسه ساعات قبل انتحاره وأمر بتزويده الشكولاته "حتى الموت".
كان وباء الفيروس التاجي بمثابة مسرحية بلا معنى، وفجأة تطل السخافة بوجهها فوق حائط الوباء. هكذا يدفع فقدان المصداقية إلى إشعال الحشود التي لا تستطيع مواجهة الفيروس الذي هاجمها، وهي تخاطر بالانقلاب على الشخص المسؤول عن الصحة العامة. ما يعني أن الأزمة الوبائية أزاحت اللثام عن شيء اسمه "السخافة الكاذبة" التي تنطوي على الآلاف من الإشارات التي تدل على الذوق السيئ والوقاحة البذيئة والغباء.
في بداية الأمر سعى ترامب إلى الاستهانة بخطورة الوباء من خلال تحديه لرأي علماء الأوبئة، ولم يقف عند هذا الحد بل تنبأ بنهاية الجائحة خلال فصل الربيع. لكن عندما بدا الخطر واضحا، ادعى ترامب أن الفيروس جاء نتيجة تدخل أجنبي من الصين وأوربا، وبالتالي يجب إقامة جدار لوقف هذا الاجتياح، حيث قال بصريح العبارة: "أمن الحدود هو أيضا أمن صحي.. ومن ضمن أسباب حد حالات الإصابة في الولايات المتحدة الأمريكية هي الاجراءات الصارمة على الحدود".
وانتهى به الأمر إلى التنصل من المسؤولية ليلقيها على عاتق إلى حكام الولايات، الذين شكك في مصداقيتهم بعدما اتهمهم بالتقاعس وعدم الاستجابة لمخاطر الأزمة الوبائية.
سنكون مخطئين في إذ ما تسرعنا في استخلاص النتائج. بغض النظر عن إسقاط أهلية دونالد ترامب في الحكم وإدارة شؤون البلاد إلى جانب أنصاره، أتاحت له أزمة الفيروس التاجي فرصة لترسيخ نوع من الإفلات من العقاب، والدليل الواضح على ذلك هو أنه لا يستند على أي حكم قضائي أو قرار، فهو يستطيع فرض إرادته دون قيد أو شرط.
ترك الطغاة المهرجون تأثيرا قويا أدى إلى تشكيل نوع جديد من الاستبداد على الصعيد العالمي، حيث كان ترامب أول نموج واصل لمدة أربع سنوات توسيع إمبراطوريته خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، كنماذج على هذا التوسع نذكر جاير بولسونارو في البرازيل، رودريغو دوتيرتي في الفلبين، بوريس جونسون في المملكة المتحدة، ماتيو سالفيني وبيبي غريلو في إيطاليا، جيمي موراليس في غواتيمالا، فيكتور أوربان في المجر. وفي الهند، قام النائب راهول غاندي (حفيد إنديرا غاندي) بمهاجة رئيس الوزراء ناريندرا مودي بهذه الكلمات: "توقفوا عن التهريج، فالهند في حالة طوارئ".
إن تغريدات ترامب ومنشورات سالفيني على فيسبوك وتهريجات بيبي غريللو ونكت بوريس جونسون تعكس كاريزما تهريجية مناهضة للبطولة. هؤلاء القادة الجدد الذين يسمون بالشعبويين، ينقصهم التأثير الذي كان يحظى به القادة الشعبيون العظماء لأمريكا اللاتينية مثل خوان بيرون أو جيتوليو فارغاس. في الواقع هؤلاء ليسوا سوى مهرجين يمارسون نفوذهم من خلال الطغيان والأخبار الزائفة والمحاكاة الساخرة.
يختبر هذا الجيل الجديد من القادة مفهوم السلطة الكاريزمية كما حدده ماكس فيبر في " السلطة القائمة على النعمة الشخصية والاستثنائية لدى الفرد.. بما أنها تتجلى من خلال الصفات العظيمة والبطولة أو غيرها من الخصائص التي تجعل من الشخص قائدا. لكن هؤلاء ليسوا مجردين من بعض الكاريزما، في حين أن هذا الرجل العادي الذي تهتف له الشبكات الاجتماعية، هذا الرجل المهرج في تلفزيون الواقع والبرامج الحوارية، تم تضخيمه كما لو كان مشحونا بالطاقة الكهربائية عن طريق الشبكات الاجتماعية.
يندرج أداء هؤلاء ضمن عالم التصوير السخيف والتركيب اللغوي المقرف والجنسي. إذ كل يوم يستأنف سالفيني تناول طعامه بنشر صور لوجباته على تويتر، ولا يتردد ترامب في الحديث عن "المهبل" ودم الحيض، مثلما أهان صحافية "سي إن إن" ميغان كيلي عندما ذكرته بخطاباته الجنسية. وعلى مستوى العلاقات الدولية، تزداد وتيرة تبادل الشتائم والإهانات والألفاظ النابية التي تنتهك الأعراف الدبلوماسية على غرار جونسون بوريس حينما وصف فرانسوا هولاند ب"الكابو" (سجين موظف يعمل ضد زملائه المعتقلين) كما نعت الفرنسيين ب"الفضلات الصغيرة" أو "روث الحيوانات".
يبقى الملك السخيف مجهولا بالنسبة لنا، لكن يمكننا تقفي أثر سلالة النسب، كما ذكرها ميشيل فوكو في دروسه ب"كوليج دو فرانس" حول الصفات غير طبيعية ل"كاليغولا": فهو متعطش للدم، وحشي، يمارس زنا المحارم مع أخواته، ولا يتردد في خيانة زوجته، كما أنه شغوف بألعاب السيرك. وفي وصف "هيل جبل" قال إنه "جعل الحب تجاه المرأة هو نفسه تجاه الرجل.. ورحب بالفجور من خلال جميع الثقوب في جسده". مرورا ب "كلود" الذي استعبدته زوجته السافلة "ميسالين"، وليس انتهاء ب"نيرون" الذي لا يشيم الدم في وجهه حينما ينغمس في أفعال مشينة مع رجال ونساء، وهو يحب أن يتخنث ويتزوج مع عبده المعتق.
في أطروحتها "مشاهد الحقيقة" جمعت آريانا سفورزيني ملاحظات فوكو المتناثرة حول "السلطة السخيفة". وكتبت أن فوكو "حدد مفهوم السخافة في فئة معينة كما ورد في تحليل التاريخ السياسي الخاص به"، وهي فئة تعبر عن القوة عندما "تستدعي السلطة اتخاذ أكثر الأشكال سخافة وشناعة".
لقد حذرنا فوكو من الوهم المتمثل في رؤية السلطة السخيفة مثل "حادث في تاريخ السلطة" و "فشل الميكانيكا"، بل هي "واحدة من الهياكل المتأصلة في آليات السلطة". "حتى عندما تكون السلطة في يد شخص غير مؤهل، فإنها تظهر جليا في شكلها السخيف الفاقد للمصداقية. إنها مسألة متعلقة بإظهار الشخصية التي لا مفر منها، موظفة بصرامة وإلى أبعد حد عقلانيتها العنيفة".
منذ انتخاب ترامب، ذهب إكسينوفون تينيزاكيس متوسعا في التحليل الخاص بمشيل فوكو حيث كتب في مقالة نشرها على مجلة "ESPRIT"، "كل يوم يتم اتخاذ قرارات جديدة ضد التزامات الولايات المتحدة والمبادئ الكبرى للديمقراطية؛ إخفاقات جديدة وتجاوزات سخيفة وتسريبات جديدة تظهر على السطح لتكشف عن الفوضى في قلب السلطة. وأمام هذه الكرنفالية المتسارعة التي تزخر بها ولاية ترامب، غالبا ما يتم اتخاذ موقف الدهشة": "كيف يمكن أن يبقى على رأس السلطة إذ كان يتفوه بهذه العبارات السخيفة، ويتخذ قرارات تتعارض أحيانا مع الحس السليم والمبادئ الانسانية؟" بالأحرى يجب أن نطرح عكس هذا السؤال، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار منطق ميشيل فوكو."
صراع المهرجين والهولوغرام
كان لدى هتلر وموسوليني جوانب من السخافة، فقد كانا مثيران للسخرية بشكل لا إرادي، إذ كان موسيليني يمارس التزلج وهو عاري الصدر، أو هتلر الذي حبس نفسه ساعات قبل انتحاره وأمر بتزويده الشكولاته "حتى الموت". لكن سلطتهما استعارتا تمثيلا إمبراطوريا أكثر تزمتا وقاتما بإعادة تشكيل رموز السيادة القديمة (الفاشية، النسر، التحية الرومانية، الاستعراضات والصليب المعقوف…) لقد كانت طريقة عملهما قائمة على شبكة إدارية أمنية وبيروقراطية من اجل السيطرة على الأفراد، ولم يكن لهم شيء من الارتجال الهزلي كما لدى ترامب أو غيره.
تمارس السخافة سلطاتها وتفرض نفوذها على القادة أمثال "الملك أوبو" (عنوان لمسرحية كتبها ألفريد جاري) أو "أرتورو أوي" (برتولت بريخت) أو شخصية الدكتاتور في فيلم شارلي شابلن، أي أنها تسعى إلى تجريد سلطتهم من الشرعية وإسقاط صفة الجلالة. كما يقول بريخت في إحدى كتاباته: "أرتورو أوي هي شخصية درامية تهدف إلى إسقاط الاحترام التقليدي المشؤوم الذي يستفيد منه كبار السفاحين على مر العصور."
أن ينتسب الطغيان إلى سلطة سخيفة هو أمر مستحيل بالفعل. وترامب هو عبارة عن شخصية من القمامة الفاخرة التي تحقق نصرا موسوما بالابتذال والقرف والسخرية، من واقع أنه يجسد نوعا مثاليا لرجل متخلف اكتسب هالة طالها الصدأ. وأما تماثيل ترامب العارية التي انتشرت في الأماكن العامة بالمدن الأمريكية خلال الحملة الانتخابية ل2016 فقد كرست شكلا من أشكال القدسية الفاسدة، وفن النحت الهابط، لتشكل بالتالي نوعا من التمثل العفوي للسلطة السخيفة.
قال كارتر جودريتش، رسام الكاريكاتير الذي نشر على الصفحة الأولى من مجلة "نيويوركر" رسما يصور ترامب على أنه مهرج شرير: "من الصعب محاكاة هذا الرجل بسخرية… إنه يمشي ويتحدث بالفعل مثل كاريكاتير في حد ذاته. "
حسب فوكو، تعبر السلطة السخيفة عن أقصى قوتها، وطبعها الذي لا يخضع للسيطرة، وهو ضروري لا مناص منه. كما أن عدم استحقاق السلطة لا يلغي أثارها، التي تكون أكثر عنفا وتدميرا من السلطة السخيفة- مثل سلطة "الملك أوبو" على وجه التحديد.
اليوم يتم الجمع بين هذا الأداء المركز وضغط الشبكات الاجتماعية والاستخدام الاستراتيجي للبيانات الضخمة والخوارزميات، وأينما نجح الطغاة المهرجون في فرض نفسهم، فإنهم يجمعون بين سلطة السخافة وإتقان استخدام الشبكات الاجتماعية والتمادي في السخرية وقانون سلسلة الخوارزميات.
تم تطوير النموذج الأولي للثنائية الخوارزمية من طرف بيبي غريلو وخبير التسويق جيانغبيرتو كاساليغيوو اللذان اخترعا حركة الخوارزمية "خمسة نجوم". وظهر المهجر والمبرمج المعلوماتي في كل مكان بوجه "يانوس" الروماني – إله البوابات والطرق والمداخل والمخارج، له وجهان واحد ينظر للمستقبل وآخر ينظر للماضي- كما هو الشأن بالنسبة لدونالد ترامب وبراد بارسكال ، بوريس جونسون ودومينيك كامينغز، فيكتور أوربان وآرثر فينكلشتاين، ماتيو سالفيني ولوكا موريسي، مخترع "بستيا"، البرنامج الذي يحلل البيانات الضخمة ل 3.6 مليون معجب على صفحات فيسبوك.
برز جيل جديد من المستشارين السياسيين مع انتشار الشبكات الاجتماعية، وهم دكاترة في علم الكمبيوتر أو "مهندسو الفوضى" كما يسميهم مستشار ماثيو ربنزي السابق جيليانو دا إمبولي، بالنظر إلى قدرتهم على استغلال الإمكانات السياسية لشبكة الويب وتوجيه موجات الغضب على الشبكات الاجتماعية نحو صناديق الاقتراع.
لدى جميع الأحزاب السياسية مهندسي المعلوميات، الذين يتقنون جيدا التلاعب بالناخبين بفضل البيانات الضخمة والخوارزميات. لقد كانت خطوة عبقرية من طرف جيانغبيرتو كاساليغيوو إذ قام بمواءمة شخصية المهرج مع شخصية خبير التسويق. حيث دائما ما يتواجد الخبير المعلوماتي تحت عباءة المحرض الهستيري. لكن المهندس لا يساوي شيئا بدون المهرج.
ترامب هو عبارة عن شخصية من القمامة الفاخرة التي تحقق نصرا موسوما بالابتذال والقرف والسخرية
في المشهد المعاصر لكرنفالنا السياسي، تلعب المسرحية الثنائية نفسها حول السخرية والخبرة. وكما يحفز المهرج من جانبه على فقد الثقة، يتم اتخاذ البرمجيات وسيلة للتعبئة، حيث يكون الأول متهورا عندما يكون الثاني منهجيا. هكذا يسير الكرنفال مع الدوامة جنبا إلى جنب، وراء المهرج والبرمجيات، في ظل الاضطراب الظاهر في الكرنفال، ومع صرامة الخوارزميات.
إلى حد الآن في فرنسا، لم يتجسد بعد استبداد المهرجين في شخصية سياسية. ذلك أن مارين لوبون لم تشأ أن تحافظ على إرث والدها الذي كان ضمن الأوائل الذين جسدوا الهزل السياسي كما هو الشأن لدى سيلفيو برلسكوني في إيطاليا، لكن كلاهما كانا شخصيات تلفزيونية، قبل انتشار الشبكات الاجتماعية.
حتى ولم تتجسد، فإن الظاهرة الهزلية ما فتئت تلوث الحياة السياسية كفيروس متأصل، بواسطة الجذب الشعري (خاصية فيزيائية يتم بواسطتها انتقال السائل من الأسفل إلى الأعلى، كانتقال الماء من جذور الشجرة إلى أوراقها). وهناك سلسلة من الأحداث الصغيرة تشهد على ذلك: كالاتصالات الهاتفية بين إيمانويل ماكرون وجون ماري بيغار، الذي غرد على تويتر يشكي عدم إعادة فتح الحانات الصغيرة. هذا فضلا عن تبادل الرئيس رسائل قصيرة مع سيريل حنونة، أو رحلته إلى مرسيليا من أجل زيارة ديدييه راولت.
يقول إيمانويل ماكرون: "إذا أردنا أن نكون أشخاصا عاطفيين تجاه هؤلاء الناس يجب أن لا نرتمي بين أحضانهم في 2022، يجب أن نتحدث إليهم، ونُظهر لهم التقدير، ونبدو أننا نصغي لهم." وكتب إلين سالفي بأسلوب شديد اللهجة على "ميديا بارت" فإن "إيمانويل ماكرون يمارس الديماغوجية". حقا هذا الرجل يغازل مثل المهرجين. لقد علمنا خلال أزمة السترات الصفراء، أن الرئيس الفرنسي أمضى ساعة في مناقشة الحركة الاجتماعية مع باتريك سيباستيان، وأنه أرسل "رسالة نصية لطيفة" إلى سيريل حنونة يعبر فيها عن تقدريه لبرامجه المواضيعية على الإذاعة والتلفزيون.
تتأثر الحياة العامة بظاهرة الهزل، باعتبارها عدوى ماكرة تؤدي إلى انحدار مجال الممارسة السياسية نحو محاكاة النموذج الهزلي. هذا ولم يقم المهرجون بعد بنزع التاج من أولائك الذين أسماهم ديدييه راولت ب"الهولوغرام". لكنهم قادرون بالفعل على "إخراج الفضلات عليهم"، كما أكد جان ماري يبغارد بعدما هاتفه الرئيس: " أنا ألعن الرئيس والرئيس يتصل بي. أظن هذا رائعا."
بعد هذا الانجاز المثير للقرف، استشعر بيغارد نمو أجنحته. كما خصه الموقع الامريكية "بوليتيكو" بمقال تحت عنوان: "الكوميدي الذي سيصبح الرئيس الفرنسي".
لكن بيغارد ليس المهرج الوحيد الذي يعتريه طموح بأن يصبح رئيسا. بل حتى عفيدة تورنر التي شاركت سابقا بتلفزيون الواقع، أعلنت ترشيحها في 31 ماي على تويتر في تغريدة خاطبت فيها "معجبيها الأعزاء والفرنسيين الأعزاء" مؤكدة أن هذه الخطوة تأتي من أجل "معالجة أزمة السترات الصفراء والعنف من طرف الشرطة". وعندما حلت ضيفة على برنامج سريل حنونة أكدت قائلة: "أنتم تعرفون جيدا مع من تتعاملون. أنا لا أمزح أبدا". وبينما يفكر سيريل حنونه فيما قالت، تظاهر ديدييه بيغارد بعدم اكتراثه بذلك، لكن بلا شك كانت الأزمة الوبائية في صالح هذا الأخير، إذ أنه تقلد سلطة سخيفة علت بشخصيته الباستورية إلى مرتبة الأسطورة البارثية.
البروفسور المهرج
تستند أسطورة البروفسور راولت على ملامح البروفيسور. إنها ملامح جميلة، كما يصفها رونالد بارث، هي تلك التي تجمع بين سلسلة كاملة من العلامات المتناقضة، المستعارة من الأسطورة والمرتبطة بالحداثة؛ مع بلوزة باستور البيضاء والشهر الطويل المكسو بالشيب مثل ذلك المارد من بلاد الغال، ويتحلى بشجاعة شخصية الرسوم المتحركة بانوراميكس، ويظهر مثل أستيركس كاهن القرية الذي يملك سر تحضير الجرعة السحرية.
هكذا يجتمع المهرج والخبير في شخصية راولت، الحاصل على جائزة "إنسيرم" 2010. إنه يصطاد ويجمع الفيروسات مثل الفراشات، وقد تم تسمية اثنين من الفيروسات على اسمه: "راولتيلا" و"ريسكيتسا راولتي". لكن هذا العالم يحب الخروج من منطقة راحته، ويمزج بكل سهولة بين مهاراته في علم الوباء وموهبة البهلوان. هكذا يرتدي راولت طواعية لباس المهرج النرجيسي، ويدنو بنفسه إلى منزلة أقل من باستور وأقرب إلى ترامب، ويولي ظهره غير مباليا بالقيم العليمة المتماسكة القائمة على التجربة، في حين ينغمس في مقابلات صحفية متعددة كشكل من أشكال التعويض النرجيسي.
لكل عصر أساطيره، وكما كتب رونالد بارث في "الأساطير" أن القسيس بيير حمل جميع علامات الرسول. إنها رسولية الخير المستوحاة من الإيمان المسيحي. أما رسولية راولت فتبدو مختلفة تماما، فهي لا تدعو إلى الإيمان بل إلى الشك. إنها رسولية الشك وفقدان المصداقية التي تهز جميع أشكال السلطة: الطبية والعلمية والسياسية والإعلامية والفكرية. "أعتقد أنني أمثل شيئا من الصدمة التي تهز العالم في الوقت الحالي" يقول راولت: "نحن قادمون للطعن في احتكار الكلمة، هذا الحق في الكلام الذي تتمتعون به –أنتم وسائل الاعلام حاليا- نحن نسحبه ونسرقه منكم. لا نتهم بكم ونقول بأنفسنا كل شيء".
يذهب البروفيسور متفاخرا بنفسه وهو يتحدث حول فلسفة نيتشه وميشيل أونفري وأفلاطون. كل هذا ويقتبس طواعية عن جان بودريلارد، الذي كان بدون شك سيرى فيه أحد هذه "الشخصيات التنكرية" التي تحدث عنها في مقالته الأخيرة "الكرنفال وأكل لحوم البشر"
الطغاة المهرجون لم ينتصروا بعد لكن الكثيرين من الذين يجسدون شخصية "الملك أوبو" ظهروا في كل مكان بفضل الوباء الذي أدى إلى تمرد الطغاة. من خلال سياسة مد اليد يسعى ماكرون إلى زرع بذور ظاهرة السخافة مجسدا سلطته الملكية المتدنية القيمة. بالتالي أضحى من المستحيل استبعاد سيناريو انقلاب الجمهورية الخامسة ضد نفسها من خلال تكريس لقاء المهرج مع شعبه.
* المصدر: "ميديا بارت"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.