"ديارُهم مختلفة، وهِمَمُهم غيرُ مؤتلِفة، [و] لديارهِمْ في آخرِ الزمان نبأٌ ٌ عظيم، وخطبٌ جسيمٌ، من أمرٍ يَظهَر، وأحوالٍ تُبهِر"! (المسعودي متحدثا عن المغاربة في "مروج الذهب") حين تحدث القائد التاريخي الفذُّ صلاح الدين الأيوبي عن المغاربة (أي أهل الغرب الإسلامي) بعد أن أسكنَهم في القدس الشريفِ عقبَ انتصار حِطِّين وطردِ الفِرِنجة منه قائلا: "أسكنتُ هناكَ من يَثبُتونَ في البَرِّ، ويَبطشونَ في البَحر، وخيرَ من يُؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة"، فإنَّه لا شكَّ قد شهِدَ بما شَهد به بعد أنْ خبِرَ القوم عن قرب، وعرف معدنَهم حق المعرفة. وها هو ذا التاريخ يدور دورته الصغرى، ويُثبت من جديد أنَّه "لا يزال أهلُ الغَرب ظاهرينَ على الحقِّ حتى تقوم الساعة" كما وردَ في الحديث الشريف. فعلاوة على الوقفات الاحتجاجية والمَسِيرات المليونية المستمرة احتجاجا على التطبيع، وإسنادًا لغزة، في مختلف المدن المغربية، منذ بداية المَقتلة الصهيونية عقب طوفان الأقصى، وكذا على اعتصام أهل طنجة التاريخي بميناء طنجة الدولي ضد مرور سفن الإبادة المتجهة إلى الكيان المجرم، فقد شهد العالَم مجموعة من المواقف الشعبية المغربية المشرِّفة التي تبيِّن حجمَ الارتباط العضوي بين المغاربة وفلسطين. وفي هذا السياق تتالت في غضون الأيام الأخيرة فحسبُ ثلاثة مواقف حُقَّ لأهل المغرب أن يَفخروا بها تماما كما فخروا من قبلُ بصرخة المهندسة المعلوماتية ابتهال أبو السعد في وجه ميكروسوفت بسبب دعمها التكنولوجي لجيش الإبادة في غزة، وهي: * ركوب حنظلة المغرب، الصحفي محمد البقالي، البحرَ رفقة مجموعة من أحرار العالَم، في اتجاه غزة، في خطوة رمزية لفك الحصار عن المدينة البطلة المحاصرة منذ قرابة عشرين سنة، والمُبادة منذ حوالي سنتين، لكنِ المنتصرةِ كذلك على عدوِّها المصاب بجنون القتل والهدم، قتلِ الأطفال والنساء والعزَّل، وهدمِ المباني والمنشآت والمشافي والملاجئ، في دلالة واضحة على انهزامه الميداني والأخلاقي. البقالي قال قبل الرحلة: "الجميع يُدرك مصاعبَ الرحلة ومخاطرها، لكن ماذا يُساوي ذلك أمام ما يُواجهه أطفال غزة؟" وأضاف بعد أن أسرَه جنود العدو ثم أطلقوا سراحه ورحَّلوه إلى فرنسا مرغَمين: إنَّ ما حدثَ "ليس نهاية الرحلة، بل بداية لسرد جديد"، لأن "الرحلة لم تكن محاولة لاختراق الحدود، بل كانت نداء أخلاقيا لكسر جدار الصمت"، إذ إن ما حمله المشاركون لم يكن سلاحا، "بل روايةً تُدينُ صمت العالَم عن الإبادة في غزة". * خروج رئيس المجلس العلمي لإقليم فجيج ببوعرفة، الأستاذ محمد بنعلي، من ضِيق عباءة الصمت الذليل المُخزي المفروض لبسُها – كرها أو طوعا – على كل المشتغلين بالحقل الديني في المغرب، ومنهم (العلماء) – يا حسراه – أنفسُهم، إلى سَعة حرية التعبيرعن الحق وإشهاره ومساندته، وذلك بصرخته المؤيدة لغزة الأبية في وجه العلماء والحكام والشعوب، معتبرا كل صمت عن إبادة غزة – بله التقاعس عن إغاثتها – مشاركةً في إبادتها، مما تسبب له في الإعفاء من منصبه، وإنه لإعفاءٌ بمثابة نِيشان شَرَف يُوضع لورقته إطارٌ، ويُعلَّق على الحائط بين رفوف خزانة الكتب باعتباره مفخرة من المفاخر المستحقَّة (لا المَوهوبة)، ويقال لصاحبِهِ حقا وصدقا وهو مُعفًى: "فضيلة الشيخ فلان الفلاني"، و"السيد المحترم فلان الفلاني"، لا كما كانت الصِّفتان تُقالان له رياء أو تزلفا أو ضرورة إدارية وهو رئيس للمجلس، وشتان بين الحاليْن! ولذلك لم يكتف فضيلة الشيخ السيد محمد بنعلي المحترم بتوجيه نقده اللاذع إلى علماء السوء البالعين ألسنتَهم بخصوص غزة، المُطيلينَها بخصوص فروع الفقه الخلافية وما شابهها، ولكنه عبر بأريحية عن ارتياحه كمن تنفس الصعداء بخصوص التخلص من عباءة وزير الأوقاف بقوله: "وداعا رئاسة المجلس العلمي"! يشار إلى أن وزارة الأوقاف وعضوا بالمجلس العلمي الأعلى حاولا تبرير إعفاء السيد محمد بنعلي بتبريرات واهية (كتغطية الشمس بالغربال) لم تُقنع أحدا، مما جلب عليهما غضبا شعبيا واسعا ازداد على الغضب من السكوت الكلي المريب للطرفيْن إزاء مَقتلة غزة المستمرة منذ سنتين وإزاء التطبيع. * دخول أزيد من ثلاثين مناضلا من مناضلي الجبهة المغربية لدعم فلسطين بالمقر المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان في إضراب تضامني رمزي عن الطعام احتجاجا على القيم الإنسانية التي تُذبح على مرأى العالم ومسمعه بحصار الناس في غزة وتجويعهم خارج نطاق كل الأخلاق البشرية، وإدانة لكل أشكال التطبيع مع الكيان المجرم الذي من العار أن تقبلَ البشريةُ المتحضِّرة به ذا دولة وجيشٍ وعَلَم بين ظُهْرانيْها! هذه العينة من المواقف المغربية المشرِّفة تفضح عمالة التيار المتصهين الوليد داخل الوطن، وتحشره في زاوية العزلة الكئيبة، رغم حَرَكية كل الذباب الإلكتروني (الحَرْكي)، ومنه حساباتٌ كثيرة تابعة للوحدة 8200، وحدة تساحال الاستعلاماتية الصهيونية، بما يعبِّر عن حقيقة الارتباط المغربي بفلسطين الذي كان وسيبقى دائما وأبدا، حتى من لدن أبناء الطائفة اليهودية المغربية الوطنيين الأحرار الذين لم يرفضوا إلى الآنَ الهجرةَ من الوطن إلى الكيان المحتل فحسب – كالآخرين الذين أصبح بعضُهم من أشد مجرمي الحروب في فلسطين – بل رفضوا كذلك فكرة الصهيونية نفسها من الأساس، ومنهم سيون أسيدون، المضرب عن الطعام مع ناشطي الجبهة المغربية لدعم فلسطين، والذي سيذكره التاريخ بأنه كان أول من كانت له الشجاعةُ ليدعوَ إلى إسقاط الجنسية المغربية عن اليهود الذين هاجروا للاستيطان في الأرض المحتلة ممن خدموا في الجيش الصهيوني، إذ إنهم بفعلهم ذاك يكونون قد تخلوا تلقائيا وبالضرورة عن الجنسية المغربية، لأنه لا ولاءَ عسكريا لدولتيْن اثنتيْن في الوقت نفسه.
وما أجمل أن نختم حديثنا عن هذه النماذج المغربية المشرقة في الثبات على المبدإ ولو بالتضحية بالنفس أو بالمنصب أو بالرَّيع أو بغيره بما قاله محمد البقالي أولَ ما وطئت قدماه الوطن بعد الترحيل: اليوم فهمتُ لماذا للمغاربة من دون كل شعوب العالم حارةٌ وبابٌ بِاسمِهم في فلسطين اسمهما حارة المغاربة وباب المغاربة… لأن دمَ المغاربة محتشدٌ حدَّ الحمرة القانية بالعهد، عهدِ تقديس ما أتت الشريعة بتقديسه كما قال قديما شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم: عهدي ببيتِ القُدس وهو مُقدَّسٌ * والدِّينُ دينٌ والبُراقُ بُراقُ وأهمُّ ما للمُسلمين شعائرٌ * مِنْ دُونِها الأرواحُ والاعناقُ