الأمن الوطني يطلق منصة رقمية "إبلاغ" لمحاربة الجرائم الرقمية    كيف تهدد الجزائر و"البوليساريو" أمن الساحل والصحراء؟    الموعد والقنوات الناقلة لمباراة بركان والزمالك في نهائي الكاف    إجهاض عملية تهريب وترويج نحو 63 ألف قرص مخدر من المؤثرات العقلية بالدار البيضاء    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت    البحث العلمي وبعض الشروط الأساسية من أجل الإقلاع!    من قمة المنامة..رسائل ملكية قوية إلى من يهمهم الأمر    قرار جديد من الفيفا يهم كأس العالم 2030 بالمغرب    الصين: مصرع 3 أشخاص اثر انهيار مصنع للشاي جنوب غرب البلد    بدء وصول المساعدات عبر الرصيف العائم وحماس تشكك في نوايا واشنطن وتؤكد الاستعداد لمعركة استنزاف طويلة    وزير الخارجية الإسباني: رفضنا السماح لسفينة أسلحة متجهة لإسرائيل بالرسو بموانئنا    طنجة.. توقيف شخصين وحجز الآلاف من قنينات الكحول غير مصرح بها    شفشاون.. الطبخ المغربي فسيفساء أطباق تعكس ثقافة غنية وهوية متعددة    الساكنة تستنكر لامبالاة المسؤولين تجاه حادث انفجار أنبوب للماء الصالح للشرب وسط الناظور    فرق كبيرة تطارد نجم المنتخب المغربي    ملتقى الأعمال للهيئة المغربية للمقاولات يبرز فرص التنمية التي يتيحها تنظيم كأس العالم 2030    افتتاح الدورة الثانية عشرة لمهرجان ماطا الذي يحتفي بالفروسية الشعبية بإقليم العرائش    المنتخب المغربي النسوي يهزم نظيره الجزائري ويتأهل للدور الأخير من تصفيات كأس العالم        افتتاح مهرجان ماطا الذي يحتفي بالفروسية الشعبية على أرض التسامح والانفتاح    طقس السبت..جو حار وأمطار بهذه المناطق!    باحثون شباب يستعدون لتطوير مشغل ذكاء اصطناعي باللهجة الدارجة المغربية        مقاولات جهة طنجة-تطوان-الحسيمة توفر أكثر من 450 ألف منصب شغل سنة 2022    المغرب يفرض رسوم مكافحة إغراق السوق على سلعة تركية    الفيفا تقر تعديلا يمنع انتقال أي لاعب من أي بلد ليس عضوا في الأمم المتحدة    افتتاح بيت الحمية المتوسطية بشفشاون..تكريم ثقافة عريقة وتعزيز التنمية المستدامة    هدى صدقي تكشف عن جديد حالتها الصحية    "البيجيدي" يطالب بالتحقيق في تسويق منتجات غذائية مصنوعة من المخدرات    جامعة محمد الخامس "الأفضل في المغرب"    الخسارة الثالثة للأشبال بدوري ماركفيتش    المغرب يسجل 35 إصابة جديدة ب"كوفيد"    ملف إسكوبار الصحراء.. محاكمة بعيوي تبدأ في هذا التاريخ    كيف يتم تحميص القهوة؟    سانشيز يعلن الأربعاء موعد الاعتراف بفلسطين    إسرائيل: حرب غزة "ليست إبادة جماعية"    الطالبي العلمي يجري مباحثات برلمانية بالصين    الخزينة تكتتب ما يعادل 3,4 مليار درهم في سوق السندات ما بين 8 و 15 ماي    منظمات الإغاثة تحذر من تحديات متزايدة في عملياتها في قطاع غزة    القمة العربية في مواجهة التحديات    العصبة الاحترافية تحدد تاريخ إجراء مواجهة "الديربي البيضاوي"    السيد العمراني يلتقي أجاي بانغا.. إرادة قوية لتعزيز التعاون بين البنك الدولي والمغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الجزائر.. نظام العسكر يلجأ لتوظيف مؤسساتها التعليمية لتحريض الأجيال الصاعدة ضد المغرب    تراجع جديد يخفض أسعار بيع "الغازوال" والبنزين بمحطات الوقود بالمغرب    شراكة تثمّن الإمكانات الغنية للسياحة القروية    المحكمة الدستورية تقبل استقالة مبديع وتدعو وصيفه لشغل مقعده بمجلس النواب    دراسة: توقعات بزيادة متوسط الأعمار بنحو خمس سنوات بحلول 2050    رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً في إطار تحدٍّ مثير للجدل    "ولد الشينوية" أمام القضاء من جديد    احتفاء بسعيد يقطين .. "عراب البنيوية" ينال العناية في المعرض للدولي للكتاب    "ألوان القدس" تشع في معرض الكتاب    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (12)    الأمثال العامية بتطوان... (600)    ما دخل الأزهر في نقاشات المثقفين؟    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة البحث عن الذات


الفقرة التاسعة
في هذه اللحظة، و بعد أن أنهيت دراستي الجامعية، وجدت نفسي بين خيارين: خيار الاستقرار بأوروبا و خيار العودة. فاخترت بدون تردد الرجوع إلى أرض الوطن من أجل البحث عن فرصة جديدة للتواجد و الاستمرار و الثأر لزمن الظلم و القهر و الإقصاء الذي لازمني سابقا. و أنا في طريق العودة و ذكريات الماضي القريب تتبادر أمامي بنجاحاته و إخفاقاته، حينها استحضرت قولة «طارق بن زياد» الشهيرة عندما كان على أبواب فتح بلاد الأندلس : «البحر من ورائكم و العدو أمامكم ...» ، فكان البحر بالنسبة إلي هو بحر أوروبا بثقافتها و حضارتها الضاربة في القدم، بجمالها و بنجاح ثوراتها و بكل لحظة قضيتها بين أحضانها، لكنني لم أبالي بكل هذا، فقررت إحراق جميع قواربي و أوراقي و كل ذكرياتي، حينها لم يعد أمامي إلا العدو ، عدو الجهل و الفقر و الأمية و الحرمان و الفساد بكل أنواعه، إنها بالفعل مأساة حقيقية تنتظريني في المغرب، مغرب مريض منهك، يتأهب بكل عزيمة و رغبة و ثبات نحو السكتة القلبية. فكان الاختيار صعب، و لكنني كنت جد مقتنع به، لأن أوروبا بنت حضارتها بسواعد أبنائها و بدمائهم عبر مختلف الثورات التي عاشتها مجتمعاتها في زمن الظلام و اللاهوت. فلم أرغب التطفل عليها، فاخترت العودة رغم الصعوبات التي كانت تنتظرني لأساهم بقدر المستطاع في زمن التحولات و التغييرات التي سيعرفها المغرب عاجلا أم آجلا.
بعد حوالي سنة من الإنتظار تمكنت من الحصول على رخصة مزاولة مهنة الصيدلة بالمغرب، في تلك الفترة كان المغرب يعيش أوضاعا مزرية و لكن بعد مد و جزر و بعد مرور أكثر من سنة، أخذت الأمور طريقها للانفراج و خاصة عندما صوت حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المعارض بنعم على مضامين دستور 1996 ، فكانت بداية التوافقات السياسية التي انتظرها الملك الراحل «الحسن الثانيش طويلا بينه و بين المعارضة التي كانت تدعمها قاعدة شعبية مهمة، بعدها و بعد فوز الاتحاديين خلال الانتخابات التشريعية لسنة 1997 بحصولهم على 57 مقعدا تم تعيين الأستاذ «عبد الرحمان اليوسفي» في السنة الموالية وزيرا أول، فأصبح الشأن العام يدبر بواسطة حكومة التناوب التوافقي، في تلك اللحظة التاريخية قررت الانخراط بصفوف الحزب كمناضل من أجل المساهمة في التحولات السياسية التي يعرفها المغرب.
لقد تصالح الحزب الاتحادي مع النظام السياسي الحاكم، و لكن في المقابل تخاصم مع ذاته، مع تنظيمه و قواعده، فوقعت به انشقاقات و اشتد النقد و اللغط، كان السؤال الذي يردده الرافضون للدخول في هذا التوافق :
أي ضمانات لمستقبل حزبنا بعد دخوله في هذه التجربة المجهولة العواقب ؟
في بداية المشوار الحكومي الجديد فقد المغرب الملك «الحسن الثاني» مهندس حكومة التناوب، فتولى بعد ذلك «محمد السادس» السلطة و أصبح ملكا للبلاد، مرت هذه العملية في أمن و أمان أمام أنظار الوزير الأول «عبد الرحمان اليوسفي» و حزبه الإتحاد الاشتراكي. مرت الخمس سنين الأولى لحكومة التناوب التوافقي بسلام. لكن سنة 2002 كانت محطة حارقة و صدمة مدوية للحزب، خاصة بعد فوزه في الانتخابات التشريعية لسنة 2002 و حصوله على 50 مقعدا مقابل 48 مقعد لحزب الاستقلال و 42 مقعدا لحزب العدالة و التنمية، حينها كان الكل يترقب من ملك البلاد تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول للحكومة الجديدة، فجاءت المفاجأة، و تخلى أهل الحل و العقد عن المنهجية الديمقراطية بدون الخروج عن الوثيقة الدستورية، و عين «جطو» وزيرا أول. بعد فترة قدم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي استقالته من الحياة السياسية و بدون رجعة، فكانت مناظرة «بروكسيل» محطة أساسية لتعليل استقالته، بحيث أكد من خلالها بأن الديمقراطية و جيوب المقاومة الرافضين للتغيير برزخان لا يلتقيان و لا يمكنهما التعايش أبدا، و من تلك اللحظة بدأ الحزب في التراجع، و أمام هذا التراجع المريب كانت المعارضة الجديدة المنتمية لقوى المحافظة تترقب الفرصة للانقضاض على زمام السلطة.
أما الانتخابات التشريعية لسنة 2007 فقد شكلت بنتائجها تحولات واسعة بالخريطة السياسية فبدأ الإتحاد الاشتراكي بالتراجع مرة أخرى بحصوله على 38 مقعدا، و في نفس الوقت بدأ حزب العدالة و التنمية يتسلق الدرجات، حيث حصل على 46 مقعدا، في حين حصل حزب الاستقلال على المرتبة الأولى ب 52 مقعدا، فعين بعد ذالك أمين عام حزبه وزيرا أول من طرف جلالة الملك.
و من أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق حزب الإتحاد الاشتراكي في هذه الانتخابات و قبلها، أن الحزب عرف ابتداء من دخوله إلى تجربة التناوب التوافقي و بعدها فراغا سياسيا قاتلا، و خاصة بعد أن تخلى عن امتلاك الخطاب الاجتماعي، و تخليه عن الارتباط بالحياة اليومية للمواطن و كذلك انشغاله بالصراع التنظيمي و تنافس نخبه حول المقاعد الحكومية، فتراجعت شعبيته و امتداداته على ما كان في سابق عهده، و في المقابل تزايدت شعبية بعض الأحزاب في مقدمتهم حزب العدالة و التنمية، بعد ذلك عرف الحزب ظاهرة الانشقاقات، فانشق عنه جناحه النقابي خلال مؤتمره السادس بقيادة «نوبير الأموي» إضافة إلى تيار الوفاء للديمقراطية بقيادة «محمد الساسي»، أما مؤتمره السابع فقد تميز بنزاعات متعددة كان أغلبها يطالب بشرعنة التيارات داخل الحزب و تقنينها. كل هذه الصراعات أدت إلى تفتت الكتلة التصويتية لهذا الحزب الذي كان يشكل رئتي الخريطة السياسية المغربية في زمنه الجميل، فتدهور بشكل كبير أداؤه الحكومي الذي فرضته مجموعة من الإكراهات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الدستورية، مما جعل حصيلة الحزب حسب المعارضة سواء داخل صفوفه أو بالمؤسسة البرلمانية في مجال الإصلاحات متواضعة رغم مساهمته في فتح أوراش كبرى للإصلاح و تمكين المغرب من تفادي السكتة القلبية
و دوره الإيجابي في انتقال السلطة الملكية بسلام بعد وفاة المغفور له «الحسن الثاني».
كانت 2007 ضربة قاضية للحزب بعد مشاركته في حكومة «عباس الفاسي» فكانت الحصيلة غير مقنعة بالنسبة للمعارضة داخل الحزب بشهادة الوزراء نفسهم (مداخلة بعض الوزراء الاتحاديين خلال ندوة أكادير الأخيرة). جاء المؤتمر الثامن وسط نزاعات تنظيمية و مذهبية حادة انطلاقا من النتائج المتواضعة التي حصل عليها الحزب في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، فدخل الحزب في مخاض عسير من أجل النقد الذاتي، فازدادت الحدة و التوتر، فتوقف المؤتمر في جولته الأولى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فاستأنف جولته الثانية بعد أشهر، فظهرت قيادة جديدة بوجوه قديمة و عادت الأوضاع إلى سابق عهدها، و مرة أخرى نجحت آلية التراضي الذي أصبح الحزب يتفنن في إتقانها. و اشتد الفراغ و اختل التنظيم و ظهرت أصوات تنتقد سوء التدبير و الاستهانة بالمرحلة، و خلال هذا المؤتمر ارتأى الحزب على أن اختناق المشهد السياسي الذي يعيشه المغرب يقتضي إصلاحات دستورية و سياسية لتتمة مسار الانتقال الديمقراطي و ذلك بالتوجه نحو الإقرار بملكية برلمانية، و كانت في العمق من وجهة نظر العديد من الفاعلين السياسيين مجرد وسيلة للفت الانتباه و الاختباء وراء فتح نقاش عمومي لم يستجب له باقي الفاعلين السياسيين و خاصة الأصدقاء منهم المنتمين إلى الكتلة الديمقراطية و الذين يدبرون الشأن العام، و لكن في نظري كان الحزب جاد في اقتراحاته و انتظاراته.
لتفادي هذا الإخفاق، على الحزب اليوم أن يعود إلى قواعده التنظيمية خاصة منها الواعية بخطورة المرحلة و القادرة على العطاء و الإبداع، و أن يقوم بنقد ذاتي بل بثورة حقيقية يؤسس من خلالها لربيعه المنتظر. إذن على مؤتمره القادم أن يكون محطة نوعية و حاسمة لإخراج الحزب من عزلته المجتمعية و إعادة هيكلته بواسطة قيادات جديدة و بجيل جديد من الأفكار المرتبطة بالتحولات و التغييرات الذي يعيشها المغرب و محيطه الإقليمي و الدولي، بعيدا عن لغة التوافق المملة.
لقد عرف هذا الحزب العتيد و الضارب في النضال كبوات متعددة، كان يواجهها باستمرار بكل حزم و شجاعة كما هو الشأن بالنسبة لمؤتمره الاستثنائي لسنة 1975 ، حيث تم من خلاله القطع مع مرحلته الثورية و التأسيس لمرحلة إصلاحية جديدة، كان من ثمار هذا التحول ظهور معارضة قوية استفاد المغرب منها كثيرا خاصة في زمن الرصاص و الرعب و الظلام. مهما وقع يبقى حزب الاتحاد الاشتراكي مدرسة كبيرة بتاريخه و بنضاله و بعطاءاته، فلا ينكر هذا إلا جاحد.
إذن فمستقبل الحزب بيد مناضليه من أجل الدخول إلى مرحلة جديدة و لهم كل الإمكانيات و التراكمات لإخراج الحزب من عنق الزجاجة.
نترك حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يعد العدة لمؤتمره التاسع للدخول في مرحلة جديدة و المساهمة في بناء خريطة سياسية جديدة بالمغرب متمنيين له التوفيق و النجاح.
و نعود إلى ثورات أوروبا الشرقية.
بعد ثورات شرق أوروبا و تشتت دولة يوغوسلافيا انتقلت رياح الثورة إلى أمريكا اللاتينية و آسيا للتخلص من الأنظمة الديكتاتورية. بعدها وجدت الثورة نفسها بين أحضان بلاد الرافدين فقضت على نظامها البعثي.
كل هذا كان يسير في اتجاه إعادة رسم خريطة جيوسياسية جديدة تتماشى و التحولات السوسيو اقتصادية و السياسية التي يعيشها العالم، و التي نظًر لها في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي كل من رئيسة الوزراء البريطانية السابقة «مارغريت تاتشر»، و الرئيس الأمريكي السابق للولايات المتحدة الأمريكية «رونالد ريغان» ، و كذلك رئيس الاتحاد السوفياتي سابقا «ميخائيل كوربتشوف» إضافة إلى الداهية الأمريكية «هينري كيسنجر» وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السابق.
أخيرا وصلت رياح التغيير إلى دولنا العربية بعد انتظار طويل في بداية سنة 2011، فسقط النظام التونسي البوليسي، و لحق به النظام المصري المافيوزي، كما سقط النظام الليبي المستبد أيضا، أما النظام السوري فلازال يقاوم و يصارع من أجل البقاء و لكن لا أعتقد أنه سيعمر طويلا.
أخيرا وصلت رياح التغيير إلى دولنا العربية بعد انتظار طويل، كان ذالك في بداية
سنة 2011.
سقط النظام التونسي البوليسي و فر زعيمه المنبوذ بدون رجعة، و لحق به النظام المصري المافيوزي، كما سقط النظام الليبي أمام اندهاش الجميع و مات زعيمه الأسطوري موت الجرذان، أما النظام السوري فلازال يقاوم و يصارع من اجل البقاء و لكنني لا أعتقد أنه سيعمر طويلا.
أما بالنسبة للمغرب فقد وصلته هو أيضا رياح الثورة، و ظهر ذلك جليا من خلال حركة 20 فبراير و من خلال الحراك السياسي الذي عرفته مختلف الفئات الاجتماعية.
ظلت الأمور بين مد و جزر و اشتد النقاش و تعمق، و لكن كانت الأغلبية تسير نحو ثورة سلمية هادئة عنوانها الكبير هو «الإصلاح و التغيير»، و كان هذا بمثابة ضربة قاضية بالنسبة لجيوب المقاومة.
بعد أيام من هذه الحركية السياسية و الاجتماعية و الشعبية، جاء الخطاب الملكي ل 9 مارس ليمثل لحظة تاريخية حاسمة من اجل تحديد مصير المغرب ووضعه على الطريق الصحيح.
لقد تميز الخطاب الملكي بالحكمة و التبصر و الشجاعة و الفطنة. لم تكن هذه اللحظة التاريخية وليدة الصدفة بل كانت نتيجة حتمية لمجموعة من التراكمات و النظالات و الأحداث، انطلقت من رحم الحركة الوطنية مرورا بالأحزاب الوطنية الديمقراطية و المنظمات الحقوقية و مرحلة سنوات الرصاص و حكومة التناوب التوافقي، إلى حركة 20 فبراير التي كانت بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس.
إذا فهذه اللحظة التاريخية ملك للأمة المغربية و ذاكرتها الجماعية، و لن تكون ملكا لأحد أبدا، و لن تكون أيضا محل مزايدات تافهة.
جاء الخطاب الملكي بمجموعة من النقاط كأرضية للإصلاحات الدستورية و من بينها تعزيز سلطة البرلمان و بالتالي تعزيز سلطة الحكومة المنبثقة من الأغلبية السياسية، والسير نحو تحقيق نظام سياسي برلماني في الأفق يظل الملك فيه رمزا للوحدة و ضامنا لاستمرار الدولة و استقرارها، و يصبح الشعب مصدر السيادة و السلطة. كما أن روح النص الدستوري سيصبح مرتبط بمبدإ فصل السلط، و مراقبة بعضها لبعض، إضافة إلى نقطة أخرى جد مهمة تتعلق بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف و المصالحة، كما تم من خلال الخطاب الملكي الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، تكون خارج دائرة التوازن بين باقي السلط، و تسمو بسمو القانون، و أن تكون وظيفتها الأساسية مراقبة سلطة القانون، وإصلاح هذه السلطة مرتبط بإصلاح منظومة العدالة برمتها.
في فاتح يوليوز من سنة 2011 صوت المغاربة بالأغلبية على دستور المملكة الجديد، ثم جاءت استحقاقات 25 نونبر و أفرزت فوز حزب العدالة و التنمية بأغلب المقاعد البرلمانية، و على إثرها و تفعيلا لبنود الدستور الجديد، تم إسناد رئاسة الحكومة للأستاذ «عبد الإله بنكيران» من طرف جلالة الملك.
وجد على طاولة الحكومة الجديدة مجموعة من الملفات العالقة و الحارقة، و خاصة منها الاجتماعية، إضافة إلى محاربة الفساد و اقتصاد الريع والحفاظ على الأوراش الكبرى التي تبنتها الحكومات السابقة، و كذلك العمل على إعادة توزيع الثروة و السلطة؛ و هذا هو بيت القصيد. و لنكن منصفين فالأستاذ «بنكيران» و حكومته لا تتحمل مسؤولية كل المآسي و الكوارث الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي يعيشها المغرب اليوم، بل هي نتيجة لمجموعة من التراكمات يتحمل مسؤوليتها الجميع. لكن الدستور الجديد الذي صوت عليه المغاربة بالإجماع تقريبا يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة الجديد لم تعطى للحكومات السابقة منذ الاستقلال.
لقد انتظر المغاربة و خاصة الطبقات المعوزة الشيء الكثير من هذه الحكومة إلا أن بعد وصولها إلى السلطة خيبت الامال و لم تلتزم بوعودها و ظلت بعيدة كل البعد عن الخطاب الواقعي الذي يتماشى و التحولات السوسيو اقتصادية و السياسية التي يعرفها المغرب و محيطه الإقليمي و العالمي و أصبحت أكثر وفاء لخطابها المزدوج ، الاتكالي الشعبوي، التيوقراطي و الديماغوجي و الاختباء وراء جلالة الملك، فالمغاربة أصبحوا واعون بحقوقهم و واجباتهم الكاملة نسبيا و لم تعد لهم الرغبة في أنصاف الحلول و لا الحلول الترقيعية، فمطالبهم واضحة : الشغل، السكن، الصحة، التعليم، محاربة الفساد.... و لكن للأسف تفاجئوا بالزيادة المهولة في أثمان البنزين و مشتقاته و بالتالي تأثرت باقي المواد الأساسية بدورها مما أدى إلى تردي القدرة الشرائية للمواطن بكل طبقاته خاصة الطبقات المعوزة و المتوسطة , و في الأيام الأخيرة فاجأنا أصحاب الحل و العقد بفتح نقاش عدمي يؤسس لإقبار مجانية التعليم العالي , كل هذا سيزيد لا محال من تأزم الوضعية الاجتماعية و الاقتصادية للأسر المغربية و خاصة بعد ارتفاع أثمان الحبوب في الأيام الأخيرة بعد كارثة الجفاف التي حلت بالولايات المتحدة الأمريكية اخيرا.
و أمام هذه العبتية و الخلط و في صيف سنة 2012 و بمناسبة ثورة الملك و الشعب و عيد الشباب و جه الملك محمد السادس خطابا إلى الشعب المغربي و كان كعادته خطابا مقنعا وجادا, فخصص معظم الخطاب لقطاع التعليم و جاء فيه :» لقد انتهت كل محاولات إصلاح القطاع إلى الفشل و بأننا بحاجة إلى إصلاح جدري لهذا القطاع, إن الأمر لا يتعلق إذا في سياق الإصلاح المنشود بتغيير البرامج أو إضافة مواد أو حذف أخرى و إنما المطلوب هو التغيير الذي يمس نسق التكوين و أهدافه.»
وبهذا يحسم جلالة الملك النقاش حول حاضر و مستقبل التعليم و تفتح أيضا صفحة جديدة لإصلاح التعليم في إطار رؤية شمولية تأخذ بعين الإعتبار التحولات و الحركية التي يعرفها مجتمعنا و محيطنا الإقليمي و العالمي, إذا فهي رسالة واضحة لرئيس الحكومة و فريقه لوضع برنامج حقيقي و واضح قابل للتفعيل بعيدا عن الخطابات الفضفاضة التي لا تسمن و لا تغني من جوع.
لقد اختار رئيس الحكومة الحلول السهلة و الترقيعية و تطاول على جيوب المواطنين و أشعل بها النيران و أصبحت لهيبا سنكتوي لا محال جميعا بناره, و أصر بشكل غريب و غير مسبوق في مجال تدبير الشأن العام على قيادة المغرب بكل جدارة و استحقاق نحو السكتة الدماغية التي لا أعتقد أن بلدنا سيخرج منها سالما كما خرج من السكتة القلبية إذا استمرت الأوضاع على حالها.
نعم لقد وصلت هذه الحكومة إلى الطريق المسدود، فأمام اندهاش الجميع و للتخفيف من حدة الأزمة الإجتماعية و الإقتصادية التي يتخبط فيها المجتمع، تمكنت الحكومة النصف ملتحية بعد جهد جهيد من الحصول على قروض مالية من طرف أبناك فرنسية، أمريكية و ابرطانية. صدقوا أو لا تصدقوا لقد وصلت هذه القروض إلى مليار و نصف دولار، و بذالك تكون الحكومة المغضوب عليها قد رهنت مستقبل الأجيال القادمة و مصير الحكومات المقبلة. و ما زاد الطين بلة أن أغلب قيمة هذه القروض سيتم صرفها على مراتب المواطنين و على مصاريف المؤسسات العمومية في الوقت الذي كان من المفروض أن توجه إلى الاستثمارات المذرة للربح. إذن بفضل سوء تدبير هذه الحكومة سيظل المغرب ببشره و شجره و حجره رهينة في يد المؤسسات المالية الكبرى لسنين و عقود، سنعيد نفس أخطاء القرن الماضي سندخل في استعمار جديد لا نعرف إلى أين سيقودنا هذه المرة، بالتأكيد سيقودنا إلى المجهول. إنها الطامة الكبرى إذن. أهذا ما يستحق المغاربة منك يا
«بنكيران»بعد أن قدموا لك إرادتهم العامة في طبق من ذهب؟ لقد خيبت آمالهم و رميت بهم إلى جحيم جهنم، كن متيقنا بأنك و معشر حكومتك قد خلفتم الموعد مع التاريخ، فللنصيحة يا أستاذي و رئيس حكومتي ما عليك إلا الرحيل، فارحل جازاك الله خيرا قبل فوات الأوان.
واعلم أن رحيلك سيكون عاجلا أم آجلا.
لتحليل و دراسة و تشخيص هذا التحول الفجائي للحكومة النصف الملتحية ذات المرجعيات المختلفة ، نحن محتاجون أكثر من أي وقت مضى إلى صياغة سؤال شامل يحيط بكافة التفاصيل سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو البيئية بدون تخوف نفسي.
و السؤال يتعلق بكيف يفكر و يحيا المغاربة كأفراد و جماعات ؟ و كيف ينقلبون بين عشية و ضحاها عن مبادئهم و معتقداتهم و مرجعيتهم؟ و هل هناك أزمة حقيقية بين تفكيرهم و واقعهم؟ و كيف يترابطون ببعضهم ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.