يصعب عليَ رسم بورتريه هذا الرجل المتعدد. ربما الصعوبة كامنة في الحدود، أو بالأحرى في الإطار العام الذي يتم بمقتضاه وضع صورة الفقيد لكن مع ذلك أستطيع ركوب هذه المغامرة كي أقول كلاما حفظته الذاكرة، ونسيته حين أردت الكتابة أو القول: تلك هي صعوبة القول والكتابة معا حد الإرباك، ومع ذلك تبقى الذكريات مع الفقيد تنط بين الحين والآخر تخرج أحيانا، وتحتجب في أحايين كثيرة. ولأن كل القول يستند بشروطه، وشرطه الآن وهنا هو الاحتفاء بهذا الرجل الذي ناضل بصمت وحب دون حساب الربح والخسارة. وكلما خسر شيئا ما زاد صلابة وقوة. إذ لم يره أحد تكسرا حتى في وهنه الأخير. كان قويا بكبرياء أهل سوس الأحرار. لم يطلب أي شيء لذاته وأولاده. ولم يذعن لأي كان. ها هو الإرباك يحاصرني مرة أخرى وكأن الحديث عن الرجل خيانة مساره، هل أستطيع خرق هذا الإرباك، ووضع الخيانة جانبا إلى حين انتهاء من نقط وضعتها بين القول والكتابة أو على الأقل وضعت حدودها في بورتريه الذي نريد جميعا رسمه للفقيد. المسألة ممكنة إذا حاولنا التفكير في النقط التالية: من أهم خصال الفقيد هو محوه للاختلاف الموجود معك أو مع غيرك في الحزب، وكأن احتدام الاختلاف السياسي في حزب عبد الرحيم بوعبيد لا يفسد للمودة والمحبة صلة. فهو دائم السؤال عنك في حضورك وغيابك كما لو كان أبا جماعيا لا ينام إلا بعد أن يطمئن على الجميع. هذا المقام القيمي والأخلاقي لا يتصف به إلا القليل من الناس بل أكثر من ذلك يزور الإخوة المرضى في بيوتهم أو المستشفيات، ويحضر جنازات دون أن يكل حتى وإن كانت جنازة أخ أو صديق بعيدة عن المدينة. باستمرار يسأل عن الجميع بل يشاركه في مجال التواصل. هو ذا عبد السلام أبو إبراهيم الذي ستفقد فيه المدينة أحد رموزها الأنقياء، وسيفقد فيه الأصدقاء والأحبة صوته الدافئ وهو يطل عليك من شاشة التليفون. هل سيسأل عني أحد في هذه المدينة بعدك أيها الأخ الصديق؟ لا أعتقد ولكني سأترك بعض هذه التفاصيل في الذاكرة وسأطويها حروفا وكلمات في القادم من الأيام. ثمة علاقة وجودية بين الفقيد والمدينة إذ لم أر في حياتي إلا نزرا قليلا من الناس الذين يرتبطون بمدنهم بطرقة جنونية مثلما لا أعتقد أن أحدا منا أو من أبناء هذه المدينة يحب سطات بنفس الشكل الذي تربط صاحبنا بها، فهو لا يستطيع الخروج من المدينة إلا لماما حتى وإن سافر خارج المغرب يعود مسرعا، يدافع عن المدينة بشراسة ويدافع عن أهلها بقوة. أذكر حين وصل الخصام الإيديولوجي في الحزب حدوده القصوى بعد المؤتمر السادس، ظل عبد السلام أبو إبراهيم باعتباره كاتبا إقليميا يكرر قولته الشهيرة « نحن أبناء المدينة في حزب المدينة» ولا يهمنا اختلاف القيادة في الدارالبيضاء والرباط. هكذا ظلت المودة عميقة بينه وبين الإخوة الذين انسحبوا من الحزب/ الجناح النقابي، هي خاصية نادرة لحكيم يعيش بيننا في زمن نهاية الحكماء. هل نستطيع وضع هذه القيمة في مدخل المدينة كي نقول للزمن والتاريخ إن عبد السلام أبو إبراهيم عاش لأجل هذه المدينة ومن أجلها، ولم يأخذ منها غير ما يعرفه الجميع. تلك طبيعة الأنقياء والحكماء في هذا التاريخ. وفي ذكر المدينة من حيث هي عاصمة الشاوية كان الفقيد يعرف تفاصيلها منذ مولاي إسماعيل. معرفة مبنية على القراءة والدراسة، وليس فقط على المرويات الشفاهية، فهو من جانب يعرف الكتابات الكولونيالية للمنطقة مثلما يضبط قبائل الشاوية والنوع الثقافي فيها بل أكثر من ذلك هو ملم بسيكولوجية شخصية هذه المنطقة حتى وإن كان هو القادم من ثقافة أمازيغية. قد تكون هذه المعرفة العلمية بتاريخ جغرافيا المنطقة سواء على المستوى السوسيولوجي أو الأنثروبولوجي أو السياسي…. من هنا ظل موردا لكل المجالس البلدية التي عرفتها المدينة، فغالبية هذه المجالس تستشيره في المشاريع المراد إنجازها. كل ذلك يظل كلاما في كلام إذا لم نقم بأجرأته في الواقع. صحيح أن المدينة جاحدة مع أولادها وبناتها، أي مع الذين يحبونها بصدق كما عبد السلام أبو إبراهيم وغيره. اقترحت منذ أقل من عشرين سنة في بلدية سطات بحضور العزيز حسن بلبصير الذي كان ساعتها رئيسا لمجلسها البلدي وضع أسماء على أزقة وشوارع وحدائق، أسماء شخصيات تركت أثرا في ذاكرة المدينة إن على مستوى الأدب، أو الفن أو الرياضة أو السياسة أو الفكر…. وسواء كانوا مقيمين في المدينة أو خارجها وهم بالجملة يرتبطون رمزيا بالشاوية. اقترحت ساعتها بعض الأسماء التي حضرتني كالمفكر المغربي أحمد السطاتي، والفنان العربي باطما، والشاعر العربي الذهبي والشاعر المسرحي سعيد إسماعيلي ونجية الرهوني وغيرهم كثير. وفي كل مناسبة أعيد الاقتراح. ما زلت متشبثا به حتى وإن كنا في زمن السرعة الكبيرة، أعني في زمن الأوطوروت . هل يمكن تحقيق ذلك؟ هذا ممكن إذا حاولنا التفكير في ذلك بنكران الذات. ما زال لأسماء أصدقائنا الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم إمكانية لكتابة أسمائهم على أزقتنا وشوارعنا في أحياء نكرة. لتجتمع أصابعنا لكتابة هذا المطلب الجماعي للمجلس البلدي أو للسلطة المسؤولة على ذلك. هل قلت شيئا عن فقيد المدينة أم أني قلت كلاما عابرا وقعته مثلما أوقعته بين الذاكرة والنسيان، حتى وإن قلت كلاما فأنا لا أستطيع جمع حكايا الفقيد من أصدقاء كثر كالعزيز أحمد أبو إبراهيم والهادن الصغير، وعبد الكريم نور العابدين وعباس مومو، السي محمد ليتيم، وأحمد حمزة وغيرهم، كل واحد سيحكي حكايته، هناك سأكتب قليلا من ذاكرة السي عبد السلام أبو إبراهيم. في إحدى زياراتي له حرضته على حكي تجربته منذ بدايتها إلى الآن، كان متحمسا في الأول ولكن لا أدري هل قام بتسجيل ذاكرتنا الجماعية أو تركها لأبنائه كي يكتبونها بتفاصيل أخرى. لكم المحبة يا أهل أبو إبراهيم