توقيف 8 طلبة طب بوجدة بعد يوم واحد من تهديدات ميراوي    مجلس المستشارين يصادق بالإجماع على مشروع قانون يتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    المغرب يجدد رفضه التهجير القسري والعقاب الجماعي للفلسطينيين    ميراوي: تعميم وحدات القدرات اللغوية والمهارات الذاتية على مؤسسات التعليم العالي خلال الموسم الجامعي المقبل    عميد المنتخب المغربي يتوج هدافا للدوري الفرنسي    توقيع عقد للتنزيل الجهوي لخارطة طريق السياحة بجة الشمال    وزارة السياحة توقع عقدين لتسريع تنفيذ خارطة طريق السياحة في جهتي طنجة ودرعة    افتتاح خط جوي مباشر جديد بين مطاري تطوان وأمستردام    الأمثال العامية بتطوان... (598)    رئيس "الليغا" يؤكد انضمام مبابي لريال مدريد بعقد مدته 5 سنوات    بعد استئنافه الحكم.. حامي الدين يمثل أمام محكمة فاس في هذا التاريخ    كيف يمكن الاستعداد لامتحانات البكالوريا بهدوء وفعالية؟    تاريخها يعود ل400 مليون سنة.. الشيلي تعيد للمغرب 117 قطعة أحفورية مهربة    وزير التجهيز: 3000 كلم طرق سيّارة ستواكب تنظيم المغرب لكأس العالم    الجامعة تعين مساعدا جديدا لطارق السكتيوي    التوقيع على مذكرة إنشاء المركز الدولي للبحث والتكوين في الذكاء الاقتصادي بالداخلة    الاتحاد الأوروبي يمنح الضوء الأخضر النهائي لميثاق الهجرة واللجوء الجديد    تنسيقيات التعليم تؤكد رفضها القاطع ل"عقوبات" الأساتذة وتحذر من شبح احتقان جديد    340 نقطة سوداء على مستوى الطرق الوطنية تتسبب في حوادث السير    قيمة منتجات الصيد الساحلي والتقليدي المسوقة ارتفعت لأزيد من 3,5 مليار درهم    "الطابع" لرشيد الوالي يكشف عن مأساة مهاجر مغربي في رحلة بحث عن الهوية    القضاء يتابع مُقتحم مباراة نهضة بركان والزمالك    جماعة طنجة ترصد نصف مليار لتثبيت مئات الكاميرات لمراقبة شوارع المدينة    دار الشعر بمراكش تواصل الانفتاح على التعدد اللساني والتنوع الثقافي المغربي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    إدارة السجن المحلي بتطوان تنفي تعرض سجين لأي اعتداء من طرف الموظفين أو السجناء    الخط الأخضر للتبليغ عن الفساد يسقط 299 شخصا    بسبب إياب نهائي الكونفدرالية.. تأجيل مواجهة نهضة بركان والرجاء إلى يوم 23 ماي القادم    "أكديطال" تفتتح مستشفى ابن النفيس    ارتفاع حصيلة قتلى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 35173 منذ بدء الحرب        "أطلنطا سند" تطلق التأمين المتعدد المخاطر منتوج "برو + المكتب"    قُصاصة حول إصدار    الباحث البحريني نوح خليفة: جهود المغرب تأتي موازية لتطلعات العالم الإنساني وعالم الطبيعة    بعد القضاء.. نواب يحاصرون وزير الصحة بعد ضجة لقاح "أسترازينيكا"    هاشم تقدم مؤلف "مدن وقرى المغرب"    دعوات متزايدة عبر الإنترنت لمقاطعة مشاهير يلتزمون الصمت حيال الحرب على غزة    بيع لوحة رسمها الفنان فرنسيس بايكن مقابل 27.7 مليون دولار    المغرب يفكك خلية إرهابية موالية ل"داعش" ينشط أعضاؤها بتزنيت وسيدي سليمان    10 لاعبين يحرجون ريال مدريد قبل انطلاق الميركاتو    الصين تدعو لعلاقات سليمة ومستقرة مع كوريا    أسعار النفط تواصل الارتفاع وسط توقعات شح الإمدادات    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    هل تكون إسبانيا القاطرة الجديدة للاقتصاد الأوروبي ؟    دراسة: البكتيريا الموجودة في الهواء البحري تقوي المناعة وتعزز القدرة على مقاومة الأمراض    جامعة شعيب الدكالي تنظم الدورة 13 للقاءات المغربية حول كيمياء الحالة الصلبة    تبون يلتقي قادة الأحزاب السياسية.. هل هي خطوة لضمان دعمها في الاستحقاقات الرئاسية؟    بطولة فرنسا: مبابي يتوج بجائزة أفضل لاعب للمرة الخامسة على التوالي    اعتقالات و"اقتحام" وإضراب عام تعيشه تونس قبيل الاستحقاق الانتخابي    إسبانيا ترد على التهديد الجزائري بتحذير آخر    قناة أرضية تعلن نقلها مباراة الإياب بين بركان والزمالك    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    الأمثال العامية بتطوان... (597)    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    الأمثال العامية بتطوان... (596)    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرؤساء يتغيّرون.. لكن الإمبراطورية الأمريكية تدوم
نشر في المساء يوم 10 - 10 - 2008

عرّف المرشّح الديموقراطي باراك أوباما، وهو يتوجّه إلى مئات آلاف الألمان، حلف شمال الأطلسي بأنّه «أكبر تحالفٍ تشكّل حتّى اليوم دفاعاً عن أمننا المشترك». ويتمنّى المرشّح الجمهوري جون ماك كاين من جهته أن ينخرط هذا الحلف أكثر في النزاع المتفاقم في جيورجيا. هكذا بالرغم من اختلافاتهما، يتوحّد الحزبان الرئيسيان حول مفهومٍ واحدٍ لمكانة الولايات المتحدة في العالم.
لم يعُد الطعن بالرئيس جورج بوش، وهو قد أضحى «بطةً عرجاء»، شيئاً مستحبّاً. بل ترتكز الرياضة الجديدة الرائجة على المراهنة على الطريقة التي سيُعيد جون ماك كاين أو باراك أوباما بها رسم السياسة الخارجية الأمريكية. لكن هذا التمرين ليس أكثر إنتاجيّةً.
كان كاليغولا، ثالث إمبراطورٍ في روما، طاغيةً فظّاً. مع ذلك، يُحكى بأن فكرةً كانت راودته، تدلّ على قلّة احترامه لما تمثّله شخصيته العامة: تعيين حصانه المفضل، أنسيتاتوس، أولاً في مجلس الشيوخ، ومن ثم حاكماً. ربّما كان كاليغولا يعني بهذا بأنّ آليّة الامبراطورية الرومانية كانت تعمل من تلقاء نفسها، فما أن انطلقت تستطيع الاستغناء حتّى عن قياصرتها.
اليوم، حيث تجِد الولايات المتحدة نفسها في مأزقٍ في العراق والقنابل الموقوتة كامِنة في الشرق الأوسط الكبير وفي القوقاز، ليست المشكلة في رداءة بوش الكارثية أو في حماسة الرئيس المقبِل، بل في المشيئة الخاصة لإمبراطورية ولِدت من الحرب ضد إسبانيا (1898) ونظّمت «السلم الأمريكي» بعيد الحرب العالمية الثانية.
تخطّت الولايات المتحدة المغامرة الفيتنامية، وتستطيع عمليّاً الخروج سليمةً من الإخفاق العراقي. فرُغم تشوّشها المؤقت، ستُكمل الإمبراطورية طريقها وسط الثنائية الحزبية، وضغوط أوساط الأعمال والتبريكات الإنجيلية. إن هذا الإستعداد لتعريض النفس لأخطاءٍ مكلِفة - ليس للنخب بل للفئات الشعبية - يميّز الدول الإمبرطورية التي بلغت مرحلة النضج. بالتأكيد ستؤول الإمبراطورية الأمريكية يوماً إلى الإنهيار، لكن التنبؤ بانحدارها الوشيك مبالغٌ فيه. فمن دون وجود منافسٍ عسكريّ على مستواها، ستبقى الولايات المتحدة، لبعض الوقت أيضاً، هي القوة العظمى الوحيدة في العالم.
لكن، من فرط مصارعتها للتآكل، تقوِّض الامبراطوريات التوسعيّة المزهوّة قدراتها وهيبتها. إذ تتنامى عصبيّتها، وكذلك شراستها. نراها عندئذٍ تضرب الأرض برجليها تذكيراً للعالم بأنّها ليست نمراً من ورق. هكذا، نظراً لوضعها في العراق وتداعيات هذه الأزمة على المنطقة، هل ستختار الولايات المتحدة التصعيد في إيران، أو سوريا، أو لبنان، أو أفغانستان، أو باكستان، أو السودان، أو الصومال، أو جورجيا، أو فنزويلا؟ تختلف وجهات نظر ماك كاين وأوباما حول مكان التدخّل وحول التكتيكات الواجب اعتمادها. لكن لا هذا ولا ذاك يشكّك في إلحاحيّة وشرعيّة هكذا عمل. يضع الأول خطّ الجبهة «للحرب على الإرهاب» في العراق، والثاني في أفغانستان وباكستان.
تمتلك الولايات المتحدة أكثر الجيوش قوّةً في العالم. وهي تتجاوز من بعيد كل جيوش الإمبراطوريات القديمة. متواجدة بكثافة في البحار، وفي الأجواء، وفي الفضاء والفضاء الافتراضي، تستطيع واشنطن نشر قوّاتها بسرعةٍ قياسية على مسافاتٍ كبيرة. هكذا، مثل شرطيٍّ نصّب نفسه، يُسرِع من أوّل الكرة الأرضية إلى آخرها، للتحكّم او لاستثمار أزماتٍ حقيقيّة أو مزعومة. فقد أكد السيد دونالد رمسفيلد، وزير الدفاع السابق قائلاً: «ما من زاويةٍ في العالم أبعد، ولا جبلٍ أعلى، ولا مغارةٍ ولا تحصينات تحت الأرض أعمق، من أن تجعل أعداءنا خارج متناولنا...». وتخصّص امريكا أكثر من 20 في المئة من ميزانيّتها السنوية لجيشها، ممّا يعادل كامل الإنفاق العسكري لبقيّة العالم. لا يهمّ إن كان هذا يضرّ بالمجتمع. ألا تُجري مصانع التسلح مبيعات مربحة إلى الخارج؟ ففي الشرق الأوسط الكبير، تشتري منها دول الخليج - وعلى رأسها العربية السعودية - وسائل دفاع متطوّرة بمليارات الدولارات.
وبدلاً من إنشاء مستعمرات تقليديّة على الأرض، تؤمّن الولايات المتحدة هيمنتها عبر إقامة قواعدٍ عسكرية، بحريّة وجوّية. يوجد منها في أكثر من مئة بلدٍ، الأحدث هي في بلغاريا، وجمهورية تشيكيا، وبولونيا،ورومانيا، وتركمانستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وإثيوبيا وكينيا. 16 وكالة استخبارات، تنتشر مكاتبها حول العالم، تُشكّلُ سمع وبصر قوات هذه الإمبرطورية بلا حدود.
تمتلك واشنطن 12 حاملة طائرات؛ ثلاثٌ منها فقط غير نووية. تنقُل هذه السفن الكبيرة ما يصِل إلى ثمانين طائرةٍ أو مروحية، كما العديد من الجنود ومن البحّارة ومن الطيّارين. تدور حول هذه السفن الهائلة طرّادات، ومدمّرات، وغوّاصات أغلبها موجّهة ذاتياً ومجهّزة بالصواريخ. وتسهر البحرية الأمريكية في قواعدٍ منتشرة على سطح الكرة الأرضية، وتسيّر الدوريات في الطرق البحرية الرئيسية. إنّها العمود الفقري وشريان الدم لإمبراطوريةٍ من نوعٍ جديد. تنقل السفن الطائرات التي هي المموّن الرئيسي للجنود، بالعتاد وبالذخيرة. وفي واشنطن، في البنتاغون، تقدّمت أهمية الأسطول مؤخّراً على أهميّة القوّات البرّيّة والجويّة.
ديمقراطية، حقوق... ورأسمالية
يشهد الحضور الأمريكي، بين 2006 و2008، في شرق المتوسط، والبحر الأحمر، والخليج والمحيط الهندي، على رغبة واشنطن في إظهار قوّتها في كل مكانٍ من العالم. وتسلّم عند الحاجة المساعدات الإنسانية على أفواه البندقيّات، بانتظار مغانمٍ سياسية. وهناك حالياً حاملتيّ طائرات على الأقل متوقّفتان بين البحرين، وقطر ودجيبوتي، تحملان آلاف الجنود والبحّارة وفرق العمليات الخاصة، ومجهّزتان بالكامل بالمعدّات البرّية والعربات البرمائية. إن عملاقتي البحر هاتبن موجودتان هناك لتذكّران، كما أعلنه في يناير 2007 وزير الدفاع روبرت غيتس، بأنّ الولايات المتحدة «ستُبقي طويلاً على وجودها في الخليج».
وبعد أسبوعٍ من ذلك، قدّر وكيل وزارة الخارجية المكلّّف بالشؤون السياسية نيكولاس برنز، بأنّه «لن تكون لإيران الهيمنة على الشرق الأوسط، ولن تكون لها السيطرة على مياه الخليج. لذلك أوقفت الولايات المتحدة وحدتين مقاتلتين في المنطقة». وكان يمكن لأقوال برنز وغيتس أن تصدران عن أيٍّ من وزراء الدفاع، أو من وزراء الخارجية الأميريكيين، أو من مدراء وكالة الاستخبارات المركزيّة، أو من رؤساء الجمهورية في الستين سنة الأخيرة.
ففي الخطاب الذي ألقاه في يناير سنة 1980، بعد حوالي عامٍ على اتفاقية كامب ديفيد، وبعد بضعة أسابيعٍ فقط على أزمة الرهائن في طهران والغزو السوفييتي لأفغانستان، كان الرئيس جيمي كارتر واضِحاً للغاية: «إن أيّ محاولة من قوّةٍ خارجيّة للسيطرة على الخليج الفارسي سيُنظر إليها على أنّها هجومٌ ضد الولايات المتحدة. وسيتمّ استخدام كل الوسائل المناسبة، بما فيها استعمال القوة، لردّ هذا الهجوم». وأضاف بأنّ وجود الجيش الروسي في أفغانستان «يشكّل تهديداً» لمنطقةٍ «تحتوي على ثلثيّ الموارد النفطية القابِلة للتصدير في العالم» وتقع «على بعد ثلاثمئة ميلٍ من المحيط الهندي ومن مضيق هرمز، وهي الطريق البحريّة التي يمر عبرها الأساسيّ من الموارد النفطية في العالم».
بعد ذلك بربع قرن، يُعيد هنري كيسنجر، وزير الخارجية السابق، إلى الضوء مقولة كارتر ناقلاً التهديد من موسكو إلى طهران: «إذا كانت إيران مصرّة على مزاوجة التوجّه الإمبرطوري الفارسي التقليدي وحمّية الإسلام المعاصر(...)، فلن يُسمَح لها، بكلّ بساطة، بتحقيق حلمها الإمبريالي في منطقةٍ بمثل هذه الأهميّة بالنسبة لبقية العالم».
بالتأكيد، فإنّ الجنود المجهّزين بأسلحةٍ تقليدية شديدة التعقيد هم غير مهيّئين لهذه الحروب غير المتناسقة التي لم تعُد تجري بين دول، بل ضدّ كيانات تلجأ إلى أسلحة وتكتيكات غير تقليدية. لكنّ حاملات الطائرات، والطائرات المقاتلة، والدروع الصاروخية، والأقمار الصناعية العسكرية، والرجال الآليين للمراقبة، والعربات والسفن المسيّرة ذاتياً، كلّها ما يزال أمامها أياماً مديدة.
شكّل التدخّل في الشؤون الداخلية لدولٍ أخرى، منذ 1945، حجر الزاوية للسياسة الخارجية الأمريكية، سواء كان هذا التدخل مباشراً أو غير مباشر، علنياّ أو سريّا، عسكريّا أو مدنيّا. إذ لم تتردّد واشنطن في التدخّل، غالباً بطريقةٍ أحادية الجانب، في أفغانستان، وباكستان، والعراق، ولبنان، وفلسطين، وإيران، وسوريا، والصومال، والسودان، وأوكرانيا، وجيورجيا، وقازخستان، ةنيكارغوا، وبنما...، مدافعةً دون كلل عن المصالح الأمريكية، مرّوجةً في الوقت عينه لما تستنسبه من الديمقراطية، والرأسمالية، وحقوق الإنسان.
ابتكر المتحمّسون للحرب «العالمية الجديدة على الإرهاب» آليات معادِلة لنماذجٍ أُطلِقَت خلال حقبة الحرب الباردة كالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ، وبرنامج منح فولبريت والمؤتمر من أجل حريّة الثقافة: حسابات تحدّي الألفية، ومبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط، وكلاهما صادرٌ مباشرة عن وزارة الخارجية. متذكراً الأيام المجيدة للRand Corporation، ولمعهد التحليل الاستراتيجي ومنابر الدراسات السوفييتية، قام وزير الدفاع بتجنيد جامعيين في برنامج Minerva لكي يساهموا في المعارك الجديدة المعادية للتمرّدات.
اقتصاد أمريكا الفائق القوّة، وثقافتها التوفيقية وعلمها، كلّها على صورة قوّتها العسكرية: إنّها لا تضاهى. فإذا وضِع جانباً عجز موازنتها وتجارتها الهائل، الذي يُصيب أحياناً نظامها المالي ويهزّ اقتصاديات الكرة الأرضية، فإن الإقتصاد الامريكي يبقى قويّاً ويغلب عليه إيقاع «التدمير الخلاّق»، دون الأخذ بالاعتبار كلفته الإجتماعية، في الولايات المتحدة كما في الخارج.
ويشكّل الإنكماش في قطاعها الصناعي والمهني الحلقة الضعيفة. مع ذلك، لاتزال الولايات المتحدة في أعلى السلّم في مجالات البحوث والتطوير، وفي براءات اختراع علم التحكم، والبيولوجية الذريّة وأبحاث الأعصاب. وتتعزّز هيمنتها العالمية من خلال القروض الحكوميّة، والهبات الخاصة ورعاية المشاريع التي تستفيد منها جامعاتها ومراكز أبحاثها التي تقيم فروعاً لها في الخارج، وتجتذِب في نفس الوقت أدمغة العالم بأكمله. من جهةّ أخرى، فإن الشغف بالمتاحِف الإجمالية، والهندسة المعمارية لمقرّات المؤسّسات الكبيرة وشمولية استراتيجيات التسويق السياسي أو التجاري تجبِر الذين ما زالوا يشكّكون، على التسليم بأن النموذج الأمريكي مستمرٌّ في واقع الحال.
التجنيد بأسعار مخفّضة
إذاً، ليس من العجب أن تحصد البلاد عدداً متصاعداً غير متناسب من جوائز نوبل للاقتصاد، لكن أيضاً للعلوم الطبيعية. كذلك، فإن اللغة الإنكليزية الأمريكية تفرِض نفسها في العالم بأكمله كلغةٍ عالمية، خاصّةً لدى الأجيال الشابّة ومستخدمي الأنترنت. وتفسّر هذه الظاهرة وتغذّي التأثير الواسع للشركات المتعدّدة الجنسيات، وللمؤسّسات المالية الأمريكية العامّة والخاصة. وتدخل الثقافة الشعبيّة وطرق الإستهلاك الأمريكية أكثر الأماكن تأخّراً في العالم، للسرّاء والضّراء. وتقوم والمارت، وماكدونادز، وهوليوود والمسلسلات التلفزيونية، بإشباع الشعوب خبزاً وألعاباً. كما تقوم واشنطن، ووال ستريت وك. ستريت (شارعٌفي واشنطن تتمركز فيه العديد من مجموعات الضغط) بتقديم الدعم إلى الأنظمة والنُخَب المستعدّة للتعاون المتواجدة على الحدود غير المستقرة للأمبراطورية.
ليست هذه المقدرة مجرّد نتاجٍ جيلٍ عفويّ، في سعيه الدائم إلى مواردٍ طبيعية، وأسواقٍ جديدة ومواقعٍ إستراتيجيّة؛ فهي تكشف عن تشابهٍ مُقلِق مع أمبراطوريات الماضي. إذ ترى غالبيّة الأمريكيين بأنّ الحفاظ على موقعها المهيمِن يعود عليها بالنفع. بالتأكيد، هناك فئاتٌ إجتماعية تستفيد أكثر من غيرها. لكنّه، في المجمل، الأمبراطورية مربحة لهم، ليس فقط على المستوى الإقتصادي، بل أيضاً على المستوى الثقافي والنفسيّ. وهذا ثمينٌ أيضاً للمثقفين، وللدعاة الليبراليين والصحافة.
تحتفظ الولايات المتحدة بمخزونٍ هائلٍ، عسكريّ وغير عسكريّ، مما يسمح لها بمتابعة تدخّلاتها العالمية. فبإمكانها تحريك الموارد والإرادة اللازمة للخروج من المأزق العراقي. بالتأكيد، يفتقِر الجيش إلى الوحدات المقاتِلة لبعض التحرّكات البريّة الواسعة المدى، وبالإمكان ملاحظة بعض التفكّك الاستراتيجي في العمليّات ضد مجموعات الثوار، والعصابات المسلّحة والقوى الإرهابية. لكن النقص في الجنود لن يدوم؛ إذ تُجنّد مؤسسات خاصّة، بأسعارٍ متدنيّة، مرتزَقة مسلحّين أو مدنيين يُرسَلون إلى مسارح العمليات، ومن المفضّل أن يكونوا من «دولٍ تابعةٍ من العالم الثالث».
حين تبدأ واشنطن بإنشاد لازمة الدفاع النزيه عن حقوق الإنسان، والبرامج الإجتماعية، وتحرّر المرأة، ودولة القانون والديمقراطية للجميع، فالأمر يعني، بجزءٍ منه، مجرّد حيلة. إذ كان لكلّ الإدارات الأمريكية الأولويّة نفسها: ضرب شبح الشيوعية، قبل تفكّك الإتحاد السوفياتي؛ ثمّ خنق أفعى الإسلام المتطرّف منذ 11 سبتمبر.
لم يهتمّ تقرير البعثة الثنائيّة بايكر-هاميلتون حول العراق، الذي نُشِرَ في 6 ديسمبر 2006، بالفوضى على ضفاف دجلة، إلاّ بقدر انعكاساتها المحتملة على الولايات المتحدة نفسها: «يلعب العراق، الضروريّ للإستقرار الإقليمي وحتّى العالمي، دوراً بالغ الأهمية للمصالح الأمريكية. إذ يقع هذا البلد على الخطّ الفاصل بين الإسلام الشيعي والسنيّ، وبين الشعوب الكردية والعربية. ويحتفظ بثاني إحتياطي نفط في العالم. وهو يُستخدَم اليوم كمنطلقٍ لعمليات الإرهاب العالمي والقاعدة. ويؤثّر العراق، وهو جزءٌ أساسيّ من السياسة الخارجية الأمريكية، على نظرة المنطقة والعالم برمّته إلى الولايات المتحدة». في المحصّلة، تتأتّى أهميّة هذا البلد المحتلّ من كون إغراقه في الفوضى يكدّر صورة أمريكا في العالم...
وبالإتفاق مع عددٍ كبيرٍ من خبراء السياسة الخارجيّة المُخلصين للتوجّه الرسمي، أكّد السيدين جيمس أ. بايكر (جمهوريّ) ولاي ه. هاميلتون (ديموقراطي)، على ضرورة إستمرار واشنطن في إحلال سلطتها في الشرق الأوسط الكبير: «فحتّى بعد رحيل فرق التدخّل الأمريكية من العراق، سنحافظ على حضورٍ عسكريّ هامّ في المنطقة، من خلال قوّاتنا العسكريّة التي ستبقى على الأرض في العراق، وانتشار قوّاتنا البريّة، البحريّة والجوية إنطلاقاً من الكويت، والبحرين وقطر، وحضورنا المتنامي في أفغانستان.
ليس من المفاجىء أن يكون السيدين بايكر وهاميلتون قد طلبا النُصح من ألمع مؤسّسات الأبحاث الإستراتجية «المستقلّة» أو « الثنائية الإنتماء»، وغيرها من «مراكز التفكير» التي ظهرت منذ نهاية حرب فيتنام، إلى درجة أنّها تحوّلت إلى سلطةٍ خامسة. ففي العديد من هذه المؤسّسات، لا يخفي المدراء، والمستشارون والمثقّفون، مشاركتهم هذه. حتّى أنّ بعضهم قد قدّم محصّلات ونصوصاً جاهزة للإستعمال من أجل هذا التقرير عن العراق.
وقد شكّل مركز الدراسات الإستراتجية والدولية (CSIS)، المموَّل جزئياً من مؤسسة بيل وميلندا غايتس، أحد ركائز بعثة بايكر-هاميلتون. فهو يجمع وزراء وخبراء آتين من الخدمة العامة كما من القطاع الخاص. وقد أعلن هدفه: «تحسين الأمن، والسهر على الإزدهار في عصرٍ من التحوّلات السياسية، وذلك بتقديم تحليلاتٍ إستراتيجية وحلولٍ عملية إلى الحكّام، تمكّنهم من تقدير المستقبل واستباق التغيّرات». ويُذكَر من بين أعضائه الرؤساء الحاليين والسابقين لمجالس إدارة تايم انك. ، وكوكا كولا، ومريل لينش، وليهمان برازرس، وأكسون موبيل، ومورغان ستانلاي؛ كذلك المنظّر الأخير «للقوّة الليّنة soft power» الأستاذ جوزيف س. ناي من مدرسة كندي للإدارة في جامعة هارفرد. أما لائحة المستشارين، فتضمّ مجموعةٌ من قدامى مسؤولي الإدارة الديموقراطيين والجمهوريين: هارولد براون، زبغنيو بريجينسكي، فرانك كارلوتشي، هنري كيسنجر، جيمس سليزنجر، برانت سكواكروفت والسيدة كارلا هيلز.
وتستغلّ هيئات نصف خاصّة هذا «الكنز» بذاته. إذ يريد المعهد الجمهوري العالمي، المستقلّ رسمياً، والمهتمّ كثيراً بالعراق (يترأسه السناتور جون ماك كاين) «دفع قضية الحريّة والديمقراطية في العالم من خلال المساعدة على تنمية الأحزاب السياسية، والمؤسّسات العامة، والإنتخابات النزيهة، والحكم الصالح ودولة القانون». وضمن التوجّه نفسه، هناك مؤسّسة أخرى «لا تهدِف إلى الربح»، وهي المعهد الديموقراطي الوطني للقضايا الدولية، الذي ترأسه الوزيرة السابقة مادلين أولبرايت، ويعمل «من أجل تقوية وتنمية القيَم، والممارسات والمؤسّسات الديمقراطية... في كل انحاء العالم».
مع جدول أعمال أكثر تحديداً، تنوي مؤسّسة السياسة الشرق أوسطية، التي أعلنت نفسها متعدّدة الإنتماءات، لكنها تجنح بوضوحٍ نحو اليمين، «العمل من أجل إدراك، واقعي ومتوازِن، للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط (...) وتنفيذ إلتزامٍ أمريكيّ في المنطقة يرتكِز على تقوية التحالفات، والصداقة التي تأتي بالأمن، والسلام، الإزدهار والديمقراطية إلى الشعوب».
إلتمست بعثة بايكر-هاميلتون أيضاً وجهات نظر أخرى: مجلس العلاقات الخارجية، ومؤسّسة بروكنغز، وشركة راند، ومعهد البرنامج الأمريكي. ومهما كانت نزعاتهم السياسية، أحياناً إلى اليمين، وأحياناً في الوسط، لا يتساءل خبراء، أو شركاء أو مانحو هذه «المكاتب»، قط، حول ما تعود به الامبراطورية من مغانمٍ وأثمان، سياسية واقتصادية واجتماعية، على الولايات المتحدة وعلى بقيّة العالم. وتتناول الخلافات والنقاشات دوماً الطريقة الأمثل لتوفير الأمن، ولاستثمار وحماية السيطرة الأمريكية، أكثر مما تتناول القيَم، والأهداف والمُثل المفروض أنّها تكفلها. فحيث يبشّر المحافظون الجدُد من دون عقد بوجوب إكمال مهامّها بنشر الحضارة، يقول المعتدلون «التعدّديّون» الشيء نفسه لكن بصوتٍ خفيض.
مذكّرةً بأن دور الولايات المتحدة «متميّز وأوحد»، في عالمٍ حيث «القليل من المشاكل يمكن معالجتها من دوننا»، أعلنت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ببراءة : «نحن الأمريكيون ننخرِط في السياسة الخارجية لأنّه يتوجّب علينا ذلك، لا لأنّنا نريده. إنّه موقفٌ سليم، موقف الجمهورية وليس الإمبراطورية».
مع ذلك، تتجنّب حتى انتقادات المعتدلين لسياسة إدارة بوش الخارجية مساءلة واشنطن حول دعمها غير المشروط لإسرائيل. ومثل المحافظون الجدد، يرفض المعتدلون ربط الكارثة العراقية بالمأزق الاسرائيلي- الفلسطيني. ويعبّر التيّاران عن تحفّظاتٍ حول إحدى خلاصات تقرير بايكر-هاميلتون، تلك التي تطرح بأنّ الولايات المتحدة « لن تتمكّن من تحقيق أهدافها في الشرق الأدنى، ما لم تعالج مباشرةً الصراع الاسرائيلي-العربي وانعدام الإستقرار الإقليمي الناتج عنه». ويمكّن للديموقراطيين والجمهوريين، فيما يتعلّق بالمسألة الإيرانيّة، التكلّم بصوتٍ واحدٍ، لفرط ما يتّفقان عليه حول التخطيط لتدخّلات سرية في هذا البلد، ملوّحين ومهدّدين بحصارٍ إقتصاديّ مشدّد أو بعملٍ عسكريّ.
لا ترتبِط -ولم ترتبِط يوماً- الأمبراطورية الأمريكية بشخص السيد بوش. وغداً، لن تتماهى أكثر مع شخص السيد ماك كاين أو السيد أوباما. فقد تمكن المرشح الديموقراطي من التحدّث باسم الحزبين معاً، حين أعلن في مارس 2008: «أريد لسياستي الخارجيّة أن تعود إلى سياسة الثنائية التقليدية والواقعية لجورج بوش الأب، ولجون ف. كندي، وفي بعض المظاهر، لرونالد ريغن». ولم يعرُض أحدٌ من المرشّحين للرئاسة بديلاً عن المهمّة الإمبرطورية للولايات المتحدة، ما عدا إخفاء الخطاب العادي المسيحيّ مانح الدروس في الصلات النزاعيّة مع إيران، والصين، والهند، دون نسيان روسيا المنتعِشة. حيث تحاول هذه البلدان الأربعة وضع أشكالٍ من الرأسمالية الوطنية.
فخلال حملةٍ إنتخابية تخطّى رهانها الحدود الأمريكية، حوّل المرشحان العواصم الخارجية إلى منابرٍ أعادوا من عليها التأكيد على تصميمهم. لكن عندما حان موعد خطاب الترشيح، فضّل السيد أوباما ترك مركز «بيبسي» في مدينة دانفر، مكان اجتماع الحزب الديموقراطي لاختيار المرشّح الرئاسي، لصالح مدرّج دانفر برونكوس. وهي حلبة تتسع ل75 ألفٍا من الحضور، بزيادة 25 ألفا عن الكوليزيوم الروماني...
* أستاذ شرف في التاريخ عن «لوموند ديبلوماتيك»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.