لا يمكن الإدعاء أن زيارة الولاياتالمتحدةالأمريكية لمدة أسبوعين كافية لمعرفة خصوصيات المجتمع الأمريكي وبنيته الثقافية والفكرية ورؤيته لذاته وللآخر، غير أن من شأن هذه الزيارة أن تمكن الزائر من الخروج بانطباعات عامة تمكنه من الفهم والتحليل بوضوح. و أول انطباع يخرج به الباحث هو الهوة الفظيعة التي أصبحت تفصل العالم العربي عن قائدة العالم الحديث في إطار قطبية عالمية أحادية بعد سقوط المعسكر الشرقي، وقد جاءت أحداث الحادي عشر من شتنبر لتزيد من عمق هذه الهوة خاصة وأن المتهم الأول في الأحداث هو العالم العربي الإسلامي "الإرهابي" حسب المنطق الأمريكي. إن فظاعة السياسة الخارجية الأمريكية اتجاه العالم عموما والعالم العربي خصوصا أنتجت فظاعة مماثلة تمثلت في مأساة 11 شتنبر التي ذهب ضحيتها حوالي 2800 فرد حسب المصادر الأمريكية، وبغض النظر عمن قام بالعملية، فإن منطق التاريخ فرض على السياسيين والباحثين الرجوع إلى الوراء للتساؤل عن السبب وراء ذلك، هل ظلمت أمريكا فعلا أم أنها تجني ما زرعت رياحها. غير أن ما يمكن التأكيد عليه هو أن أمريكا ما قبل 11 شتنبر ليست هي أمريكا بعد 11 شتنبر، فقد تغيرت وغيرت معها وجه العالم ومستقبله وقسمته إلى شقين واحد معها والآخر مع الإرهاب، والمتأمل لما بعد الأحداث يجد أن المستفيد الأكبر من أحداث 11 شتنبر هو الشعب الأمريكي إن أراد، فقد عانت الأنفة الأمريكية من مأساة إنسانية عانت وما زالت تعاني من مثيلاتها العديد من شعوب ودول العالم، كما أن الشعب الأمريكي بدأ يحس بمعاناة الآخر بشكل أكبر بعد الهجوم على برجي التجارة العالمي ومبنى البانتغون، فالمجتمع الأمريكي لم يتعرض أمنه الداخلي لأي هجوم مند الهجوم على قاعدة بيرل هاربر سنة 1944 ما ذنب الأبرياء؟ إن الضربة أيقظت الشعب الأمريكي من غفلته ومن أنانيته وتمركزه حول ذاته، ودفعته للبحث عن حقيقته وحقيقة مجتمعه، وجعلته يتساءل عن الجرائم التي ترتكبها الإدارة الأمريكية باسمه، فتجده يبحث عن الثقافات الأخرى والحضارات الأخرى، جعلته يتذكر أنه ليس وحده في العالم وأن هناك أناسا آخرين في الكوكب الأرضي الذي يعيش فيه لهم الحق في العيش الكريم وفي السلم والديموقراطية، واستفزته كي يطرح سؤالا ملحا هو لماذا يكرهنا الناس. وبالرغم من أن الجرائد الأمريكية ومنها جريدة USA today ذكرت أن نسبة الأمريكيين المساندين لتدخل عسكري في العراق انخفضت من 74% في نونبر إلى 53% في الفترة الحالية وترجع الجريدة ذلك إلى هزالة نتائج الحرب التي تخوضها الولاياتالمتحدة ضد الإرهاب، فإنك حين تسأل الأمريكيين إن كانوا يتفقون مع السياسة الخارجية في العالم عموما والشرق الأوسط خصوصا يجيبونك أن لا، وأنه لا ذنب لأبرياء فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من الدول، فالشعب الأمريكي من أكبر المعارضين لقتل الأبرياء عموما، تقول " كلوريا" دكتورة في سيكولوجيا الأطفال وتعمل بأحد متاجر نيويورك: " إن الإدارة لأمريكية هي التي تحدد الشرير والطيب بما يتوافق مع مصالحها، فأنا مثلا أرى ما يحدث في بلدي الأصل كولومبيا، لكن حين آتي إلى الولاياتالمتحدة أجد صورة أخرى مخالفة ومشوهة يقدمها الإعلام الأمريكي، وأظن أن هذا ما يحدث مع الدول الأخرى كالعراق وفلسطينوأفغانستان ..." وتضيف بحسرة إذا كانوا يريدون تغيير النظام العراقي فما ذنب المدنيين الأبرياء، وما ذنب الفلسطينيين إن أرادوا تغيير ياسر عرفات،...ما ذنب الأفغانيين ..الإدارة الأمريكية لم تستطع أن تثبت أي دليل على قيام أسامة بن لادن بالهجوم وأنا لا أعتقد أنه قام بذلك ..لذلك أنا لا أثق في الإعلام الأمريكي..." والغريب هو أن أغلب من تسأله من الأمريكيين عن عزم الإدارة الأمريكية ضرب لعراق وما فعلته في أفغانستان وانحيازها للكيان الصهيوني، يجيبك أنه غير قابل لذلك، وهناك فئة أخرى من الأمريكيين تكرر أمامك ما يقدمه الإعلام الأمريكي ولكن يضيف في الأخير أن "لا ذنب للأبرياء"، ففي شيكاغو التقينا بسيدة أمريكية في الخمسينات من عمرها تعمل في منظمة ثقافية تابعة لجامعة شيكاغو بولاية إلينوي قالت أنها تعتقد أن أسامة بن لادن هو من قام بالعمليات الإرهابية غير أنها ليست متأكدة من ذلك، وأضافت أنه بالرغم من ذلك فإنها ضد أي عمل عسكري اتجاه العراق. جاءت هذه التصريحات في الوقت الذي كانت فيه القنوات التلفزية الأمريكية وعلى رأسها سي إن إن تذيع يوميا مجموعة من أشرطة الفيديو تظهر رجال تنظيم القااعدة يقومون بتداريب عسكرية وبتجارب كيماوية على الكلاب حسب ما تظهره الأشرطة التي قالت سي إن إن أنها توصلت بها من بقايا خزانة أشرطة محروقة كانت في حوزة تنظيم القاعدة. باربارا: أنا لا أثق في الإدارة الأمريكية "باربارا" ساخطة على ما تقوم به الإدارة الأمريكية في الخارج، وهي امرأة أمريكية في الأربعينات تعمل رئيسة قسم المجوهرات بأحد متاجر شيكاغو، كانت تتحدث بتأثر بالغ عن رفضها للانحياز الأمريكي ل"إسرائيل" وعن معارضتها لأي هجوم على العراق، وهي ترى أن أحداث الحادي عشر من شتنبر كان مخططا لها من قبل " كنا نحس أن الإدارة الأمريكية كانت تعرف أن شيئا ما سيحدث..أنا لا أثق في الإدارة الأمريكية"، وعن آثار الهجوم في شيكاغو أجابت ببرود " نحن هنا لم نحس بأثر الحدث علينا بشكل كبير، ربما في نيويورك ستجدون التأثير أقوى.." طبعا لا يتوقع الإنسان العربي أن يسمع مثل هذه التصريحات من الأمريكيين، خاصة مع الصورة النمطية السائدة في العالم العربي عن المجتمع الأمريكي عامة وتحيزه ضد العالم العربي الإسلامي، غير أنه من شأن مثل هذه التصريحات أن تبين خصوصيات المجتمع الأمريكي الذي تتباين مواقفه نظرا لجو الحرية السائد هناك الشعب الأمريكي وأزمة الهوية فالشعب الأمريكي غير مسيس، ولا يحمل أية إيديولوجيا وغير متدين أيضا، من فرط الطيبوبة التي يظهرها وتبدو لأي مشاهد أجنبي في الشوارع والمصاعد والمطاعم، يتعامل الإنسان الأمريكي باحترام مع غيره ومع الأجانب كيفما كانوا، فالتركيبة الاجتماعية لأمريكا في حقيقتها كلها أجانب، وقد تصل هذه الطيبوبة أحيانا لدرجة السذاجة، فالإنسان الأمريكي لا يفكر سوى في رفاهيته الاجتماعية والاقتصادية،وغارق في تخصصاته العلمية، أحداث 11 شتنبر خلقت أزمة هوية لدى الإنسان الأمريكي بشكل فظيع، فمن قام بالهجوم كان يستهدف بلده كعدو والإعلام يتحدث عن العرب والمسلمين كمدبرين لهذا الهجوم، مما يجعله يطرح السؤال لماذا، فالشعب الأمريكي ليس في حقيقته لا بالمسيحي ولا باليهودي، الدين عنده تعاليم بعيدة مذكورة في مجوعة من الكتب المقدسة. مفارقة غريبة بين المجتمع الأمريكي والإدارة الأمريكية الانطباع الآخر الذي يمكن أن يستنتجه أي زائر لأمريكا هو أن المجتمع الأمريكي ، بغض النظر عن تاريخه الدموي، استطاع أن ينظم ذاته على أساس قيم الديموقراطية والحرية واحترام الذات الإنسانية الأمريكية بمختلف تلاوينها العرقية والدينية والإيديولوجية، وجعل من القانون سلطة أقوى ومقدسة، وهذا ما يعتبر من أكبر مكامن القوة في المجتمع الأمريكي، يحدث ذلك في مفارقة غريبة مع ما تقوم به الإدارة الأمريكية في سياستها الخارجية اتجاه الدول الأخرى. المفارقة هاته تدفع الذهن إلى مقارنة الشعب الأمريكي كمثل مجموعة من النحل تعيش وسط خلايا منظمة ومنسقة يحكمها قانون محكم، وتتحرك بكل حرية في فضاء واسع منظم وديموقراطي، الإله الأكبر فيه هو الحقوق المدنية، غير أن هذه الخلايا محاطة بسياج من الأسلحة المدمرة والتقنيات العسكرية المتطورة يواجه بها كل ما من شأنه أن يهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة أو أن يكون مصدرا لهذه المصالح، وتتم هذه المواجهة بشكل عشوائي وبعيدا عن أي قانون أو شرعية أو نظام في مفارقة غريبة مع ما يتم بالداخل، والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة الآن ترى هل سيثور الشعب الأمريكي على سجانيه، هل ستكون 11 شتنبر بداية للإنعتاق أم أن التركيب الفكري والثقافي سيطغى، هل يمكن لقيم المجتمع الأمريكي الديموقراطية والإنسانية أن تنتصر على صلف الإدارة الأمريكية أم أن المفارقة ستظل دائما قائمة ؟ إذا كانت أمريكا في حربها ضد الإرهاب تتصارع ما أنتجته سياستها الخارجية من دمار على امتداد سنوات، فهل يمكن أن يتحول صراعها الخارجي إلى صراع داخلي أيضا، فالحضارة الأمريكية التي أنتجت الدمار والمآسي الإنسانية بتدخلها السافر في العديد من دول العالم، هي التي أنتجت مجتمعا راقيا تحكمه قيم الديموقراطية وسلطة القانون، فهل يستطيع الشعب أن يلزم إدارته بالالتزام بما أنتجته داخليا حتى مع الآخر؟ سؤال على فئات ومؤسسات الشعب الأمريكي أن تجيب عنه. حليمة آيت باحو