+ أُومَانِي أَتْكِيتْ ؟ - آيتْ بَاعْمْرَانْ ؟ + مَانِي كِيسْ ؟ - إِمْستِيتْنْ ؟ + لْعَرْبَا ؟ - يَاهْ؟ - آرْ سُولْ كِيسْ نْزَّانْ إِيرَامَانْ؟ كان هذا جزء من دردشة قصيرة مع رجل يبلغ من العمر 65 سنة، يستقر حاليا بمدينة المحمدية، يحكي عن سوق أربعاء "مستي" وعن زيارته له سنة 1975 حين كان يشتغل في شاحنة توزع قنينات غاز البوطان. وما ترسخ في ذاكرة هذا الرجل، هو أنه لأول مرة في حياته عاين وشاهد سوقا تباع فيه الإبل... عبر لي هذا الشخص الفاضل عن إعجابه بهذا السوق الأسبوعي، كما وصف لي مشاهده وملامحه كما تذكرها. أجبته آسفا بأن كل تلك الأشياء الذي ذكرتها عن لْعَرْبَا "إِيمْسْتيتن" تبخرت وتلاشت مع الزمن، وأمسى السوق صبيحة كل يوم أربعاء خاويا على عروشه وأضحت دكاكينه ملجأً للبوم. لم تعد فيه الإبل تباع ولا تشترى، كما البقر والمعز ولا حتى الدجاج... بقي فيه الاسم فقط "لْعَرْبَا" يطلق اليوم على مركز شبه قروي، يحتوي على مقر قيادة إدارية ومركز جماعي يتيم. ومستوصف صغير. هذا السوق يقع في طريق تجاري معروف وقديم يربط الصحراء بميناء تاصُّورْتْ-الصويرة- وهو على ما يبدو، عرف عدة تغيرات على مستوى الموقع، حيث كان في البداية، في دوار يسمى "توسمك" وهو أصل هذا السوق، ثم تحول إلى الموقع الذي توجد به حاليا المجزرة" الكورنا"، بجانب الوادي، ومازالت بعض الأطلال تبين إلى حد ما مرافق السوق. ليتحول في المرحلة الثالثة والأخيرة إلى الموقع الحالي، بجانب من بعض الإدارات المحدثة والمسجد... وبالنظر إلى تيمة الاسم الأول، أي "توسْمْكْ" وهي تعني بالامازيغية "تِينْ إسْمْكْ"، فإنه يتضح بشكل واضح أن الموقع كان عبارة عن مركز تجاري مهم لتجارة الرقيق- العبيد. وهي تجارة كانت مزدهرة إلى حدود دخول فرنسا إلى أكلميم واسبانيا إلى ايت باعمران. وبذلك؛ فالسوق له جذور تاريخية عميقة، ساعدته بالإضافة إلى عوامل أخرى اجتماعية واقتصادية وجغرافية، ليكون لعربا "امستيتن" موعدا تجاريا أسبوعيا مهما يستقطب عددا كبيرا من التجار والزوار. في سابق الأيام. وبالإضافة إلى ما حكاه الرجل الذي رأى الإبل في السوق، وما يحكيه بعض الشيوخ، فإنني مازلت أتذكر هذا السوق الذي أمضيت فيه جزءً من طفولتي، وقد شاهدت السوق في أواخر سنة 1986، ومازلت أتذكر مداخله وأبوابه، وكيف كان الناس يحجون إليه بكثرة. كل عائلات قبيلة امستيتن كان حضورها في السوق بمثابة الواجب الاجتماعي بغض النظر عن التسوق وشراء الحاجيات والخضر وغيرها، فالسوق كان بمثابة مؤسسة اجتماعية وفضاء للتواصل البيني والتوصل بأخبار العمال بالخارج. وأهم لحظة تجسد هذا الرابط الاجتماعي والتواصلي، هي لحظة "البريح" حين يعلو "حيكون" فوق ركام من الصناديق الخشبية الفارغة للتو من الخضر والفواكه، ويصيح " لايلاها الا الله أُوعْليها...." ثلاث مرات ويجتمع الناس حوله، وينقل "حيكون" رسالة من السلطة أو خبر ما يهم السكان. للسوق بابان، الأول رئيسي يؤدي إلى وسط السوق تدخل فيه الشاحنات المحملة بالخضر والفواكه وغيرها، والباب الثاني ثانوي، وهو خاص لعرض وبيع المنتوجات المحلية، وقد كان هذا الممر يعرف اكتضاضا مشهودا، بسبب كثرة هذه المنتوجات ووفرتها، ومنها الدجاج البلدي والبيض، والعسل والسمن وأركان، وهي منتوجات محلية صرفة. وتعرض في الصباح الباكر. ومازالت صور وملامح بعض النساء والرجال الذين كانوا يعرضون هذه السلع، مرسخة في ذاكرتي. والسوق هو على شاكلة كل الأسواق التقليدية في البادية، فناء واسع للتجار المتجولون الذين ينصبون خيامهم، وعدد كبير من الدكاكين ذات الأبواب الخشبية و"الزكروم" الحديدي، محيطة بهذه الساحة المفتوحة على شكل مربع، دون نسيان رحبة الزرع والقمح في زاوية من داخل السوق. وقبالة الباب الرئيسي للسوق يوجد سوق صغير للجزارين وهو أيضا، في تلك السنوات طبعا، تعرض فيه اللحوم المحلية من الماعز بالخصوص. ولن تكتمل الصورة دون استحضار المنطقة التحتية والخلفية للسوق، وهي المنطقة المخصصة لربط الدواب، الحمير والبغال. وهو ما يسمى بالفندق، وله أهمية كبيرة في السوق لأنه يساهم أولا في ضخ ميزانية في صندوق الجماعة كما يخلق رواجا لدى السَّمَّارين ومحترفي الحدادة. وربما توجد إحصائيات لعدد الدواب التي كانت تربط بالفندق في أرشيف الجماعة. وحسب تقديري فالعدد كان يتجاوز500. حيث كان الناس يتسوقون بالحمير والبغال من دواوير بعيدة كأمَالو وتَاوْبالت وأويال وتيزكغين وبعض دواوير ايدموساكنا وايت ايوب... وهذه الفضاءات كانت كلها تعرف كل يوم الأربعاء دينامية تجارية مهمة، السوق كان يخلق فرصا مهمة للشغل، بالرغم من محدوديتها، ولكن كان لها الفضل في إعالة اسر مهمة كالتجار والجزارين والحدادين والحلاقين والحمالين والعطارين... كما يشكل فرصة لدى السكان ببيع ماشيتهم وبعض المنتوجات كأركان والدجاج والبيض والسمن والعسل وغيرها بطريقة مباشرة وحرة بدون سماسرة ولا وسائط معينة. وفي فصل الشتاء العديد من الفلاحين كانوا يبيعون في السوق بعض الخضر كاللفت والجزر والكرعة والفلفل إضافة إلى الذرة، والقمح والشعير في فصل الصيف. يوم السوق كان هو عين المجتمع وقلبه النابض، هو صورة حية لنمط عيش الناس، هو رديف لحيواتهم. فذالك السوق الذي عشناه في أواخر الثمانينات ليس هو الكائن حاليا. فما الذي تغير؟ اليوم كل الأشياء التي ذكرناها، أصبحت في خبر كان. 20 سنة ذاب فيها كل شيئ، طحنه الزمن الرديئ الذي سمي زورا بالتحديث والعصرنة. يوم الأربعاء أصبح مثل كل الأيام كالخميس والأحد والسبت.... السوق مات ومات معه المجتمع. تغير لان المجتمع تغير وتشوه، بفعل التحول الجدري الذي فكك منظومة الحياة، وكسَّر نمط العيش. أصبحت دكاكين الدجاج الرومي الحي والمذبوح، اكبر بكثير من عدد الجزارين، كل المنتوجات المحلية- البلدي.. أصابها الهجين وتمَسَّخَتْ. العسل ووزيت أركان تباع في محلات وفي معلبات تحمل أسماء وعناوين وأرقام الهاتف للمنتجين والتعاونيات.. السمن اختفى. الدجاج البلدي انقرض حتى في الدواوير وما بالك في السوق... الناس لا يركبون البغال والدواب ويمتطون سيارات الأجرة وسياراتهم الخاصة. وكل ذلك ساهم في اضمحلال ثقافة السوق المحلي، وأصبحت كل أيام الأسبوع أيام السوق والتبضع إما في مدينة افني أو أكلميم. سوق "إمستيتن" في مهب الريح لأن المجتمع لم يعد ينتج، لم يعد مجتمعا يعيش من ذاته وبذاته. إنه مجتمع أسير، إنه رهينة لدى الشركات الكبرى، ولج بكل طواعية وأريحية عالم الاستهلاك والحداثة، تموج وغرق في بحر العولمة... أكثر مرتادي السوق أو نسميه مركز مستي، حاليا هم فئة الشباب، ينزلون من الدواوير ليس في الصباح ولكن في المساء لمشاهدة مباراة كرة القدم الأوربية، مباشرة من مدريد وبرشلونة ولندن... الكرة تدور في ملعب صغير ولكن تتحكم في الكون. ساهمت الدولة في تفكيك منظومة عيش الناس، وقيم الارتباط بالأرض والمحيط. بترسيخ ثقافة الاتكالية والفردانية. وبعد اقتناعها بفشلها وانحباس الأفق أمام المجتمع والدولة نفسها، بفعل انزياح البادية نحو المدينة وترييفها، وتفشي البطالة بشكل مخيف. عادت إلى إنعاش الثقافة المحلية وتشجيع الإنتاج الذاتي، عن طريق خلق جمعيات تربية النحل والمعز والأرانب، وتعاونيات تاكناريت وتازكموت.. لكنها كانت عودة غير مدروسة سرعان ما زرعت اليأس وحصدت الفشل من جديد. إنقاذ المجتمع يبدأ من إنقاذ ثقافته.