أميركا لم تعد تكتفي بعرقلة العدالة، بل أعلنت رسميًا قتلها. في خطوة تكشف حجم الخوف من كلمة "القانون"، أقدمت واشنطن على فرض عقوبات على أربعة قضاة في المحكمة الجنائية الدولية لأنهم تجرؤوا على لمس ملفات تخص جنودها وملفات تخص إسرائيل. إنها سابقة خطيرة تعني أن أكبر قوة في العالم أعلنت نفسها فوق القضاء الدولي، وأن العدالة لم تعد عمياء، بل أُصيبت بالشلل بفعل الضغط والابتزاز. واشنطن تبرّر: المحكمة "مسيسة"، والقضاة "أداة للحرب القانونية". لكن من الذي سيّس القضية منذ البداية؟ أليست هي التي وضعت "خطوطاً حمراء" تمنع أي قاضٍ من الاقتراب من جرائم أفغانستان أو من غزة؟ أليست هي التي اعتبرت أن مذكرات توقيف صادرة بحق بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه السابق "تهديد للأمن القومي الأميركي"؟ ما علاقة أمن واشنطن بجرائم حرب تُرتكب في شوارع خان يونس أو جباليا؟ الجواب واضح: التواطؤ الأميركي الإسرائيلي. عقوبات واشنطن ليست دفاعًا عن القانون، بل عن الاحتلال. حين يلاحق القضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين، تصبح المحكمة في نظر أميركا "منحازة". وحين تصمت عن مجازر الحلفاء، تصبح "محايدة". إنها معادلة معكوسة هدفها الوحيد أن تبقى إسرائيل محمية من المساءلة، وأن يبقى دم الفلسطينيين أرخص من أن يكلّف جنرالًا محاكمة. والأدهى أن إسرائيل رحّبت فورًا بالعقوبات ووصفتها ب"التحرك الحاسم". كأنها تقول للعالم: لا نستطيع أن نعيش يومًا بلا درع أميركي يحجب حقيقتنا كدولة قامت على الاحتلال والإبادة. الخطر اليوم لا يهدد القضاة الأربعة وحدهم، بل مصير العدالة الدولية برمّته. فإذا تمكنت أميركا وإسرائيل من تحويل المحكمة إلى أداة سياسية، فإنها ستفقد آخر ذرة من مصداقيتها، وستصبح مجرد محكمة صغيرة تحاكم الضعفاء وتُصمت أمام الأقوياء. هذه هي شهادة الوفاة التي تسعى واشنطن إلى توقيعها. إن التضامن الفرنسي مع القاضي نيكولا غيو موقف مهم، لكنه لا يكفي. بيانات الاستياء لا تُفكّك لوبي إسرائيل ولا تُوقف غطرسة واشنطن. المطلوب موقف أوروبي ودولي موحّد يعلن بوضوح: لا حصانة للقتلة، ولا حصانة حتى للأقوياء إذا تلطخت أيديهم بالدماء. العقوبات الأميركية ليست مجرد "هجوم صارخ" على استقلال المحكمة، بل إعلان حرب على مبدأ العدالة العالمية. وترك هذه الحرب تمر بلا رد سيكون بمثابة شهادة وفاة للعدالة الدولية. الحقيقة المرة أن أميركا وإسرائيل لا تخشيان سوى قاضٍ يحمل قلم القانون، لأنه أخطر من أي سلاح. ومن هنا تبدأ المعركة الحقيقية: معركة لحماية العدالة من هيمنة القوة، ولإعادة الاعتبار لضحايا الحروب، من غزة إلى كابول. إما أن تُقاوَم هذه الهيمنة، أو نعلن جميعًا أن المحكمة الجنائية الدولية ماتت ودفنت في واشنطن.