المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    ابتداء من اليوم.. طرح تذاكر المباراة الودية بين المغرب وأوغندا إلكترونيا    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    القضاء الفرنسي يواقف على طلب الإفراج عن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    الوداد ينفرد بصدارة البطولة بعد انتهاء الجولة الثامنة    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    احتقان في الكلية متعددة التخصصات بالعرائش بسبب اختلالات مالية وإدارية    مصرع أربعيني في حادثة سير ضواحي تطوان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    عمر هلال: نأمل في أن يقوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيارة إلى الصحراء المغربية    المغرب يتطلع إلى توقيع 645 اتفاقية وبروتوكولا ومعاهدة خلال سنة 2026.. نحو 42% منها اقتصادية    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    حقوقيون بتيفلت يندّدون بجريمة اغتصاب واختطاف طفلة ويطالبون بتحقيق قضائي عاجل    اتهامات بالتزوير وخيانة الأمانة في مشروع طبي معروض لترخيص وزارة الصحة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    البرلمان يستدعي رئيس الحكومة لمساءلته حول حصيلة التنمية في الصحراء المغربية    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    توقيف مروج للمخدرات بتارودانت    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    العيون.. سفراء أفارقة معتمدون بالمغرب يشيدون بالرؤية الملكية في مجال التكوين المهني    زايو على درب التنمية: لقاء تشاوري يضع أسس نموذج مندمج يستجيب لتطلعات الساكنة    احتجاجات حركة "جيل زد " والدور السياسي لفئة الشباب بالمغرب    حسناء أبوزيد تكتب: قضية الصحراء وفكرة بناء بيئة الحل من الداخل    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عصر القومة ونهاية إيديولوجيا الاستخفاف
نشر في هسبريس يوم 06 - 02 - 2011

بسم الله وبالله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه وإخوانه وحزيه.
وبعد،
بداية دعونا نقف وقفة إكبار وإجلال لإخواننا الفلسطينيين رمز المقاومة والعزة والإباء، تحية الصمود للمقاومة الفلسطينية التي سرت روحها في شرايين الشارع العربي الإسلامي، المقاومة التي ألف المشاهد المسلم مناظرها اليومية على الفضائيات كأنها حدث يعيشه، تنقل له معاناة الشعب الفلسطيني الأعزل في مواجهة مخططات الصهاينة. لا نتنكر ولا نتناسى ما لهذه الأخيرة من فضل بعد فضل الله تعالى على الوطن العربي والأمة الإسلامية. رفعت المقاومة الفلسطينية رأس الأمة عاليا، وأحيت فيها روح المقاومة وجهاد الظلم بعد عصور الصمت والانبطاح وركوب موجة المفاوضات مع كيان لا يرى في العرب والمسلمين إلا وجه العدو الذي يهدد مصيره ووجوده وأمنه. أعطت الدرس العملي لكل من اقتنع بأن مصير الشعوب العربية المسلمة وقدرها التاريخي هو التبعية للغرب والخنوع للحاكم العربي المستبد. نحتت في وعي العقل العربي المسلم وما تزال إمكانية النصر متى توافرت شروطه الإيمانية وعدته التدبيرية وعتاده المادية. إنه جيل تربى في حمى بيت المقدس الذي بارك الله حوله وببركته وبركة المقاومة تتحرك الشعوب العربية التي سئمت وضعها، إنها تنتفض على ذاتها أولا والبقية تأتي تباعا.
إننا في هذه اللحظة التاريخية إخواني أخواتي نعيش "عصر القومة والمقاومة" بامتياز بطلها وقائدها وإمامها الشعب الفلسطيني الصامد قاطبة. اليوم وغدا تتغنى الأمة كلها ببطولة المقاومة ومجد والبذل والتضحية، وغدا تمد يدها إلى عالم المستضعفين. إنها البشائر تلوح في أفق مليء بالحراك الشعبي العارم والتدافع السياسي المقاوم ضد الفرعونية والهامانية والقارونية وجنودهم. إنها السنن الكونية الشرعية تتجدد في مسرح التاريخ الإنساني ليرِي الله فرعون وهامان وقارون ما كانوا منه يحذرون وليعلموا أنهم كانوا خاطئين وأنهم استكبروا في الأرض وما كانوا سابقين كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز.
تتوالى الأحداث وتتشابك، تتداعى الأفعال وردود الأفعال، ما إن تمسك بخيط من التحليل رفيع حتى تفاجئك الأحداث بسرعتها هادمة كل التوقعات والتخمينات. لكن في غمرة هذه الأحداث يتراءى للناظر المتمعن والباحث الحصيف خيط واحد وخط أوحد لن يخلف الموعد مع تاريخ التمكين . إن هذه اللحظة التاريخية في حياة الأمة تعتبر لحظة حاسمة ومفصلية، تفصل بين عهدين عهد بائد بدأت ملامح القطيعة معه ترتسم في جغرافيا التدافع السياسي، وعهد جديد بدأت عناصر التأسيس له تنحت في وعي الإنسان العربي المسلم وإرادته، وتكتب صفحاته بدماء شهداء الحراك الشعبي العارم.
إذن، بجميع المقاييس، نحن أمام لحظة تاريخية بما للكلمة من معنى، نحن أمام تحول حقيقي نحو مستقبل منشود ظل لعقود طويلة يراود أحلام الفئات المقهورة المحقورة لا يبرح مكانه، تملئ شعاراته وخطاباته الدنيا على ألسنة القادة منذ أمد بعيد. أقول حقيقي لأنه من صنع من يهمهم الأمر، صنع بيد الشعب الذي عانى الأمرين، فقر الإرادة وشيخوخة الاستبداد على جميع الأصعدة، عانت منه الأمة لأنه حرمها أمال الترقي والتنمية والكرامة الآدمية. نحن أمام لحظة تاريخية صادقة يقابلها العقل العربي المسلم الآن بالدهشة والذهول، إنه- أي العقل العربي المسلم -تحت وقع المفاجأة التاريخية المنتظرة لكن لم يكن أحد يعرف وقتها أو يتكهن بمكان وقوعها رغم توافر جميع مؤشراتها الدالة عليها في جميع دول العالم العربي الإسلامي، ولن يستيقظ هذا الأخير إلا بعد حين لكي يدرك أهمية اللحظة بعدما يأخذ المسافة الزمنية اللازمة للإدراك الواعي ويعطي تفسيرا إيمانيا قدريا كونيا تاريخيا سياسيا للحظة التي عاشها. هكذا هي اللحظات المفصلية في تاريخ الأمم.
منذ 1924م تاريخ سقوط وتفكك الإمبراطورية العثمانية والشعوب العربية المسلمة تعيش مرارة وحرارة- ولا أقول تحت ظل لأن الظل يفيء الكائن إليه للرحمة الموجودة فيه- بقايا وشظايا "الرجل المريض" تلفح نيران تجزئتها الشعوب، تلك التجزئة التي مهدت للاستعمار وإحكام القبضة والسيطرة على الشعوب المسلمة المستضعفة. لكن هذه الأخيرة ولمدة عقود قاومت وجاهدت الاستعمار لتحرير الوطن لما اعتبرت الغازي المستعمر كافر عدو للدين وجب جهاده، حاكمته من منطلقاتها العقدية الشرعية ، لم يكن يدور بخلد هذه الأخيرة أن الاستعمار المباشر سوف يخلفه استعمار آخر أشد وأنكى على بني جلدته لا يراعي في الشعب إلا ولا ذمة.
تسلمت مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية نخب امتلكت العناصر العلمية لتدبير مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، صنعت وتشكلت ذهنيتها ونفسيتها في طاحون التعليم الغربي، ومنهم من استفاد من حالة الفراغ الذي فرضته اللحظة التاريخية، ومنهم من استفاد من صلات القرابة السياسية الحزبية أو العشائرية القبلية أو القوة العسكرية فرفعته إلى مقاليد السلطة. لم يملك الحكام القادمون إلى السلطة من بيداء العزلة عن الشعب وفيافي بؤس وفقر الإحساس بالمستضعفين من الشعب الحياد عن خارطة الطريق التي رسمها الاستعمار إنها خارطة الاستخفاف وإذلال المواطن العربي المسلم.
تنوعت الأنظمة العربية وتباينت في شكلها ورموزها لكنها توحدت في شيء واحد هو إيمانها العميق الراسخ بالايدولوجيا العربية للاستخفاف وتشربها لكافة تفاصيلها. جاءت من أقصى القبائل السياسية رموز تسعى إلى السلطة والحكم، وما منها إلا ورفع شعارات وألقى خطب رنانة طنانة يدغدغ بها عواطف ومشاعر المواطن العربي والجماهير المقهورة ويبشرها بفجر جديد تتنسم معه عبير الحرية، قلت ما منها إلا وأمعن في الاستخفاف وإذلال المواطن العربي المسلم واعتبره في أدنى مراتب الآدمية وعامله معاملة غير إنسانية.
إيديولوجيا الاستخفاف العربية تشربها الحاكمون في مدارس الغرب الفلسفية والسياسية عقيدة وسلوكا، فمهما رفع الغرب شعارات العدل والمساواة، ومهما أظهر الحاكم العربي على رقاب المسلمين من سلوك العطف الأبوي أمام وسائل الإعلام والتظاهر بمظهر الحنون العطوف تبقى إيديولوجيا الاستخفاف العربية بكل مكوناتها المفاهيمية من قمع وحصار وتفقير وتجويع وتجهيل متحكمة في سلوك القادة العرب.
إن الغرب المومن بمركزيته في هذا العالم ما كان ليقبل بشعوب تحررت من الاستعمار وبدأت البحث عن طريقها إلى جمع أنفاسها ثم البحث عن مواقع أقدام في الرقعة الدولية أن تنافسه نرجسية التمركز ونشوة قيادة العالم، لهذه الغاية صنع الغرب نخبا تتفانى في الإخلاص لهذه العقيدة/ الايدولوجيا التي يكتب المواطن العربي المسلم صفحاتها بدماء معاناته اليومية. إن الفرعونية المحلية ما هي إلا امتداد عضوي وظيفي للفرعونية الغربية التي تقود حضارة القرية الكونية اليوم.
تعيش الأمة العربية الإسلامية، ونحن على عتبة العقد الثاني من الألفية الثالثة، لحظات انقلاب وتحول تاريخي اندفعا بقدرة الله تعالى من وعي الشعوب وانبثقا من إرادتها التي تحررت أو بالأحرى بدأت من عقال "عقائد الاستبداد"، وعي فجرته المقارنة اليومية المتكررة بين طبقة تملك كل شيء وطبقة محرومة من كل شيء، وبين شمال متخم بالمادة وجنوب مثخن بجراح الألم والحرمان. لحظة انعطاف تاريخي اجتمعت شروطه التأسيسية وأمعنت أسبابه التنويرية في فعلها ودورها. نعم العناصر المادية لها دور أساسي في تحريك بواعث الثورة على الأوضاع القائمة القاتمة لكن الشعب العربي المسلم في نظري بحكم طبيعته وبنيته ونفسيته وعقيدته قد يجوع لكنه لا يصبر على معاناة الإذلال والاستخفاف والاحتقار والقمع والحصار.
درس بليغ يلقى هذه الأيام في وسائل الإعلام على مرأى ومسمع من الكل لا يمكن تخطيه بسهولة، إنها سنة الله تعالى في أخذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر. إن الغرب الأمريكي لا يتردد لحظة في إزاحة الأوراق المحروقة التي ربطت شرعية وجودها في الحكم بمدى قدرتها على حماية مصالح الغرب في الوطن العربي وتأمينها. بعيدا عن سجال الشرعية وجدال المشروعية الشعب العربي المسلم اليوم يثور على حكامه ويدوس بقدم فكره كل الشرعيات المزعومة الموهومة، استفاق الشعب وبعض نخبه ليكتشف حقيقة التزوير التاريخي الذي قاده إليه مخطط الاستبلاد والاستبداد والاستعباد الذي عزف الحكام ألحانه وموسيقاه طيلة سنين عددا. اليوم وغدا بإذن الله تعالى تكتسب الأمة المناعة الكافية ضد المخدرات الفكرية لتنقلب هذه الأخيرة سببا يمعن في اليقظة والوعي ضد المؤامرة التاريخية التي تحاك للأمة حاملة رسالة الحرية من كل عبودية رسالة الكرامة الآدمية.
إنها الإرادة الشعبية تتجلى فيها الأقدار الإلهية في تحريك عجلة التاريخ اتجاه التغيير المحتوم وقطع دابر إيديولوجيا الاستخفاف الفرعونية الهامانية القارونية القرونية. يدخل العالم العربي اليوم وأقصد به اليوم السياسي التاريخي وليس الزمني مرحلة تاريخية جديدة أبرز سماتها وأقواها انقلاب إيديولوجيا الاستخفاف على أصحابها وأخذ الله رؤوس الاستبداد ورموزه تباعا بذنوبهم السياسية فمنهم من حصب سياسيا ومنهم من أخذته الصيحة السياسية ومنهم من خسف الله به الأرض السياسية ومنهم من أدركه الغرق السياسي وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. إن منظر الزعماء العرب اليوم وهم مذعورون جراء ما يرون من زحف الإرادة الشعبية المتوثبة إلى التغيير بقدر ما يثير الشفقة النابعة من العواطف الإنسانية نبيلة الينبه على مدى تفاهة الزعماء العرب الذين يأوون إلى جبل الإصلاحات الشكلية ليعصمهم من "الغرق السياسي" ولم يفقهوا أن لا عاصم اليوم من أمر الله تعالى الا التوبة الانقلابية الى الله تعالى من عقائد الاستبداد والأوبة القلبية العقلية السياسية إلى منهاج الحرية وتحكيم الإرادة الشعبية. إنها إيديولوجيا الاستخفاف تعبر عن نفسها وتتجلى في أكثر اللحظات إحراجا، تحتقر ذكاء الشعب وسحرة الفكر والسياسة والثقافة والفن الذين ما يزالون في معظمهم قابعين تحت مظلة وهم الاستقرار عاكفين على نظام الحاكم يجمعون فتات موائده وفضلاته. يجري الحاكم إصلاحات شكلية وهو يعلم أنه المتحكم في كل شيء. إنها قمة البلادة السياسية حين لا يدرك الحاكم أن الشعب استفاق وأنه على وعي تمام بما يدور حوله، إنها البلادة السياسية حين يتأخر الفهم ويعبر عن نفسه في اللحظات الأخيرة. إنها علة البلادة السياسية التي تسقط عن الحاكم العربي أهلية الحكم قطعا، والحكم في الفقه السياسي يدور مع العلة وجودا وعدما.
إن هذه اللحظة التاريخية تظهر بوضوح وجلاء مدى ضعف الحاكم العربي الذي يتقوى بضعف شعبه وطيبوبته، ويتمسك بخيط العنكبوت الممدود من أمريكا التي لن تتردد لحظة واحدة في قطعه متى اقتضت مصالحها الحيوية ذلك. إن هذه اللحظة التاريخية التي كسر فيها الشعب العربي المسلم أصفاد الخوف وطوقه وقال لا لفرعون نظام الحكم جهارا وخرج لكي يعبر عن رفضه له ولوجوده في السلطة لا ينبغي لها أن تكون لحظة منعزلة جغرافيا، ولا منفصلة عن حركة التاريخ العربي الإسلامي وتراكمه، بل الواجب تأسيس الاستمرارية وتحدي التجزئة القطرية للدول العربية الإسلامية. إن لحظة الانتصار الحقيقة حين ينتصر الإنسان على قابليات الانهزام النفسية والعقلية في ذاته.
إن الحقوق تأخذ ولا تعطى هكذا يقول الحاكم العربي، أنا لا أعطيكم بل أنتم من ينتزع، هذا الدرس العملي لا ينبغي أن تنساه الشعوب في علاقتها بحكامها مستقبلا لأن الاستكانة إلى نشوة النصر تنسي الدروس والعبر ولا ينبغي ذلك لمن بذل وصبر.
الدرس الآخر هو أنه لا مناص للحاكم العربي من التصالح مع شعبه بشروط الشعب لا بشروط الحاكم وأن يعبر عن إرادة سياسية لتأسيس مستقبل جديد، ويترجم هذه الإرادة في إطار تعاقد جديد قوامه إعادة الاعتبار للشعب ونخبه الفاعلة وإلا فإنه "الغرق السياسي" شاء أم أبى. إنها حركة التاريخ وقوانين الاجتماع والسنن الكونية لا تحابى أحدا.
إن موسى الشعب وهارون الإرادة ومعهما الله جل شأنه يسمع ويرى لن يخشيا بطش فرعون الحكم إذا ذهبا إليه فقالا له قولا لينا لعله يذكر أو يخشى، وقال له موسى الشعب هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فإما أن يستجيب فرعون الحكم فيحقق المصالحة التاريخية مع ربه وشعبه، وأما إن كذب فرعون الحكم وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربك الأعلى فان الله سيأخذه نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
إن الشعب العربي المسلم ونخبه السياسية في حركتهما التغييرية يتحتم عليهما أن يتخذا عنوانا بارزا وشعارا واضحا لمطالبهما السياسية وشرطا في قيادتهما الجديدة هو التعبير الدستوري بوضوح عن الرغبة في "القيادة الخادمة" لا "القيادة الهادمة"، "الحاكم الخادم" لا "الحاكم الهادم" لمعنويات الشعب وإرادته ومصالحه، وكل ما خالف هذا المقتضى فلا اعتبار به ومحكوم عليه بالبطلان الدستوري. فلتهدم إذن عقيدة الحكم في الوطن العربي الإسلامي بمقتضى "أنا ربك الأعلى" ومقتضى " لا أريكم إلا ما أرى". المرحلة القادمة هي مرحلة تقوية التمثيليات الشعبية دستوريا وتقويتها وتمتيعها بالصلاحيات الحقيقية لتحصين خطوات الانتقال إلى الحرية والمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق الأمة المسلمة والاستمرار وفقها.
المرحلة القادمة هي تحرير دين الأمة والنظر في شؤونها الدينية وعلاقتها بربها من قبضة ووصاية فرعون الحكم وتنزيه الدين عن التوظيف السياسي واستقلال المؤسسات الدينية عن كل سلطة سياسية ورفع المؤسسات الدينية عن كل رقابة أمنية، بل الأفق- حين يصل مستوى إدراك الفاعلين ووعيهم إلى درجة ما ما بأهمية مقوم الأمة الديني ودوره في إعادة الاعتبار لها - هو تدخل المؤسسات الدينية لتوجيه الحياة العامة وفق مقومات الأمة التاريخية. نعم لحظات الانتقال التاريخي تحتاج إلى بصيرة العقلاء لا إلى جهل السفهاء، تحتاج إلى حكمة المخلصين لا إلى خبط المدلسين، تحتاج إلى صبر الصادقين لا إلى نزق الكاذبين. العاصم الأوحد من الانزلاق إلى الفوضى في لحظات التحول التاريخي بعد لطف الله تعالى هو الإيمان بالرفق عقيدة وسلوكا ورفض العنف نبذه مبدأ ومنهجا.
حكى الراغب الاصبهاني في كتابه "الأغاني" أن الرشيد لما ضرب أبا العتاهية وحبسه، وكل به صاحب خبر-جاسوس- يكتب إليه بكل ما يسمعه. فكتب إليه أنه سمعه ينشد:
أما والله إن الظلم لوم ... ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
قال: فبكى الرشيد، وأمر بإحضار أبي العتاهية وإطلاقه، وأمر بألفي دينار.
فتأمل هذه الحكاية لتدرك مدى الفرق بين حكام العض وحكام الجبر. وإلا فان الاستبداد ملة واحدة. فاعتبري بذلك يا امة وسطا ويا خير أمة أخرجت للناس تآمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
*كاتب وباحث مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.